رئيس التحرير
عصام كامل

قصة العجل المذعور!


كنت أغالب النوم ويغالبني قرب منتصف ليلة العيد، الإثنين، هربا من أزيز حسابات المطلوبات قياسا على ما في "الجيوبات"، حين اخترقت سمعي أصوات جحافل بشرية تتسارع قادمة في اتجاه مسكني، وسط عمارات المعادي الجديدة! ذكرني وقع أقدام الجحافل المغولية بجحافل أجدادهم من الدهماء والغوغاء والمغرر بهم في أيام هزيمة الخامس والعشرين من يناير قبل سبع سنوات.


هذه المرة لم تكن سباقا لتحطيم محال أدوات كهربائية أو غذائية ضخمة ولا لفرض سيطرة البلطجية على الشوارع، ولا لإعلان مصر ولاية عثمانية أو ولاية أمريكية.

كان السباق هذه المرة محموما مجرما مشتعلا، موجات إثر موجات من البشر، يركضون خلف عجل! نعم، يركضون خلف عجل مذعور. 
كان العجل، فيما عرفت، قد فك قيوده على نحو ما وفر هاربا لمسافة كيلومتر تقريبا قبل أن تنتهي به قدماه المتعبتان الخائرتان داخل جراج العمارة!

تلعثمت خطواته في رصيف صغير خفيض يفصل بين الجراجات، فوقع في فخ أسمنتي غير مقصود، منظر الناس متجمعة حول العجل الذي سقط على جانبه غير قادر على الحركة، يستدعي مناظر البدائيين الذين كان يمتعهم مصارعات الأسود مع فريسة.. يهللون ويستمتعون بمشهد الدم يراق والعظم يتفتت واللحم يتمزق، سقط العجل إذن وأخذ يخور ويتوجع، ولم يسكت الجمهور المحتشد، بل ظلوا متجمعين، مهللين مكبرين زاعقين، فلا هم نقلوه ولا هم تركوه.

وبعد ساعة تقريبا جيء بسيارة نصف نقل، وتعاون عشرة من جمهور السعرة المشبوبة على تحريك العجل الذي لبد في الأرض، وتشبث ورأسه وألف سكين لن يتحرك، ربطوه في حبل وجرجروه خفيفا حتى رفعوه على الشاحنة، عندئذ قضي الجمهور المولع بالترويع.. مناسكه واستوفى غريزته!

بت ليلتي أتساءل: لماذا هرب العجل؟ إن الذبح لم يكن بدأ بعد، ولن يقع ذبح إلا بعد صلاة العيد، هل رأى سكين الجزار لامعة يمر نصلها على رقبته في بروفة ذبح مثلا؟ هل رأى أمامه ذبحا في خبرة سابقة؟ خبرة سابقة؟ هل للعجول ذاكرة؟ لماذا خاف وأطلق ساقيه للريح ومن خلفه جموع تطارده حتى أنهكته؟

غريزة الخوف ليست إنسانية فقط، بل كونية، فالإنسان يخاف والحيوان يخاف والنبات أيضا يخاف.

ولن أنسى قط مشهد عين خروف يرنو إلى رأس خروف مقطوعة، من نعم الله على بعض الحيوان أن ليس في العيون بياض فنري الأسى أو الفرح قياسا على الأبيض والأسود.. كما نرى في عيون البشر. الننى مع البياض مع قوة الشعور هو ما يرسم المعاني في ملامح الإنسان، خوف الحيوان تقرأه في حركة ساقيه أو جفول قدميه والتفاتات عنقه وجموح عرفه، إن كان جوادا.

كان العجل الهارب خائفا من خبرة ذبح، والذبح من شعائر الحج، والحج من أركان الإسلام. هذا طبيعي، لكن الذبح لدينا صار طقس شهوة وغريزة أكثر منه أضحية وتقربا إلى الله وفداء.

لم يرض الله بذبح سيدنا إبراهيم لولده سيدنا إسماعيل، ففداه بذبح عظيم.

الذبح العظيم اليوم يا الله، ولا أجرؤ أن أطلعك عليه فأنت علام الغيوب، هو ذبح المسلم للمسلم، تقربا للإله الأمريكي، وذبح المسلم للمسلم وفاء لشهوة القتل واستكمالا لمسيرة أول قاتل في تاريخ البشرية، الأخ قابيل!

ألا يفزعكم ويثير رعبكم أنكم اخترتم اسم القاتل ليبقى مخلدا في أولادكم وإخوتكم وآبائكم، فمنا من هو قابيل، ونسيتم هابيل ذلك المظلوم القتيل البائس؟

أرأيتم أحدا أطلق اسم هابيل القتيل على ولد له؟

كلا.. بل تحتفون بذبح القتيل مرتين، وتطلقون اسم قابيل القاتل وفاء لذكرى أول جريمة في التاريخ سجلها الله في كتبه السماوية!
واليوم يضرب بعضنا رقاب بعض بالسيوف والمناجل والبلط.

ألسنا بذلك كفارا؟

الرسول عليه صلوات ربي وتكريمه، حذرنا في خطبة الوداع من العودة إلى الكفر من بعده، إذ يضرب بعضنا رقاب بعض!
نعم يا نبي الله.. عادوا، إنهم عادوا يصلون الفجر ويقطعون الرقاب وينحرون العجول.. والبشر.

لذلك ينحرهم الآخرون ويستغفلونهم ساخرين! وأعود لأتذكر منظر العجل المذعور المنحور.. فهل كان حقا عجلا فحسب؟
مسلمون كثيرون هكذا يذبحون.. بأيدي كفار، يقتلهم بدورهم من اعتبروهم كفارا!
لا بد أن السماء تضج بالسخرية من هذه الملهاة المأساوية الإنسانية.. تجري فصولها إلى آخر قطرة دم وزمن.

الجريدة الرسمية