رئيس التحرير
عصام كامل

من أفسد الصحفيين؟ (2)


الإرادة السياسية هي الفيصل في مواجهة الدولة للفساد، لا يؤثر في ذلك كون الدولة فقيرة أو غنية، لكن المهم أن تكون دولة "عادلة"، لأن الفساد ينمو وينتشر كالسرطان، في الدول التي تتسع فيها الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وغياب العدالة الاجتماعية، يعطي الطبقات الأكثر فقرا مبررا أخلاقيا للفساد، أحيانا بدافع الانتقام من المجتمع الظالم، وأحيانا أخرى لإيمان أبناء تلك الطبقة، بأن الوصول للثراء والرفاهية، لابد أن يمر من بوابة الفساد، فما بالنا بدولة لا تهدر مبدأ العدالة بين مواطنيها فحسب، بل تنحاز إلى الطبقات الأكثر ثراءً، وتسهل فسادها وتحميه؟!


دولة حسني مبارك كانت– كعادتها – تتعامل مع هذا الملف، بمنطق "الفهلوة" المصرية المعروفة، وقد نقل لي صديق أثق فيه، أن وزيرا بارزا في عهد مبارك قال في جلسة خاصة: إن الدولة تعرف حجم الفساد، وليس لديها النية لمواجهته، لأنها تعتبره وسيلة لإعادة توزيع الثروة، بمعني أن الدولة تدرك أنها عاجزة عن توفير الحد الأدنى من سبل المعيشة لمواطنيها، لذلك تتركهم يدبرون احتياجاتهم عن طريق الفساد، كل بطريقته!

والصحافة شأنها شأن أي قطاع، كانت ضحية تلك النظرية العجيبة، خاصة في النصف الثاني من حكم مبارك، عندما واجه نظامه ضغوطا من الغرب لإطلاق الحريات، فبدأ تفعيل النص القانوني الخاص بحق الأفراد في إصدار الصحف عن طريق تأسيس شركات مساهمة، وهو النص الذي ظل معطلا لسنوات طويلة، ولم يكن في مصر كلها صحيفة تصدر عن شركة مساهمة مصرية سوي صحيفة "صوت الأمة"، التي كان يملكها في ذلك الوقت المحامي والمنتج السينمائي عدلي المولد، حتى اشتراها منه الناشر عصام إسماعيل فهمي..

سمح نظام مبارك بتفعيل هذا النص القانوني، فصدرت صحف كبري، أحدثت زخما كبيرا في سوق الإعلام المصري، وكسرت احتكار الصحف القومية للسوق، وحلت محل الصحف الحزبية التي فقد معظمها تأثيره على الرأي العام، بسبب الصراعات بين قيادات تلك الأحزاب، لكن النظام وقتها كان يتعامل بحذر شديد مع المؤسسات الصحفية المستقلة، بداية من التحري عن مؤسسيها، ومرورا بخضوعها لإجراءات أمنية طويلة، وأحيانا عقد اتفاقات واضحة مع مؤسسيها بخصوص "السقف" الذي لن يٌسمح لها بتجاوزه، بحيث تبدو مصر أمام العالم، دولة تتمتع بحرية الصحافة، ولكن في نفس الوقت يظل ما تنشره تلك الصحف تحت السيطرة!

من جانب آخر تفتق ذهن رجال مبارك عن فكرة، أظن أننا أول وآخر دولة تنفذها، وهي الصحف التي في مصر تصدر بتراخيص من قبرص أو لندن، حيث امتلأ السوق بمئات الصحف التي لا يسمع بها أحد، أسسها أشخاص من كل لون، منهم المقاول والسباك والنجار والكهربائي، وكنا نري مسئولين في الدولة يتفاخرون بأن لدينا في مصر مئات الصحف، التي هي في حقيقة الأمر، مجرد دكاكين لتخليص المصالح، أو لمجاملة وتلميع مسئولين أو نواب، أو ابتزازهم والحصول منهم على إعلانات تحت التهديد بنشر فضائحهم الشخصية، أو وقائع الفساد التي تثبتها عليهم التقارير الرقابية..

تحولت الصحافة منذ ذلك الوقت إلى سيرك كبير، وبدأت أخبار تورط الصحفيين في قضايا الرشوة أو الابتزار، تتحول إلى أخبار روتينية نقرأها ونسمع بها كل يوم، وأنا شخصيا حاولت مرتين أن أصدر صحيفة محترمة وفقا لهذا النوع من التراخيص لكنني فشلت، الاستثناء الوحيد كان متمثلا في صحيفة الدستور بإصدارها الأول، لذلك لم يتحملها نظام مبارك طويلا وأغلقها..

في تلك الفترة بالتحديد بدت الصحافة المصرية مثل سوق كبير، اختلط فيه الحابل بالنابل، والغث بالسمين، الصحفي الموهوب بالسباك، والكاتب المثقف بالكهربائي ونجار المسلح، وكأن النظام قرر أن يحولها إلى "مولد"، لا تستطيع أن تفرق فيه، بين أستاذ الجامعة والنشال، أو بين الكاتب الحقيقي، والحاوي الذي يلعب بالبيضة والحجر!

وانتقلت عدوي الابتزاز من الدكاكين القبرصية، إلى الصحف الكبيرة التي كانت تواجه أزمات مالية، فراحت تمارس نفس اللعبة، وبعد أن كانت الإعلانات تذهب للصحف الأكثر انتشارا، وفقا لقواعد التسويق المعروفة، أصبحت الإعلانات من نصيب الصحف التي يسعي المسئول أو رجل الأعمال إلى أن يخطب ودها، أو يشتري صمتها، أو يضمن مساندتها له في معاركه مع خصوم السياسة أو البيزنس..

فشلت الدولة في تأسيس نظام اقتصادي شفاف، أو على الأقل يخضع للرقابة الفعالة، فأصبحت مصر مرتعا لاقتصاد الفهلوة والخطف، بداية من نهب أموال البنوك، ومرورا بالاستيلاء على أراضي الدولة، وانتهاء بعمولات كبار المسئولين!

فسدت الصحافة عندما فسدت الدولة، عندما أدرك الجميع – وبينهم الصحفيون – أن الفهلوة هي الطريق الوحيد لحياة مستقرة ومستقبل آمن، استطاعت صحف صغيرة أن تحقق لأصحابها ثروات ضخمة، من الابتزار والحملات المدفوعة، بينما أغلقت صحف كبيرة بسبب عجزها عن تدبير تكلفة الطباعة أو دفع رواتب محرريها، تمكن صحفيون هم الأقل موهبة، من احتلال المناصب والمواقع المهمة..

ولم تكن الدولة غائبة، بل وافقت، وباركت، وكانت في غاية السعادة وهي تفسد المهنة الأكثر نُبلا، والأكثر إزعاجا، وكثير من الروايات الموثوقة تحدثت في ذلك الوقت عن مداعبات حسني مبارك الثقيلة لبعض الصحفيين، عندما كان يضرب بيده على كروشهم، ويسألهم عن حجم ثرواتهم، متباهيا – بشكل ضمني – بأنه يعرف مصادر تلك الثروة، لكنه يسكت "بمزاجه" !

تسألني: هل الصورة قاتمة إلى هذا الحد؟

وأجيب: على العكس تماما، لأن الغالبية العظمي من الصحفيين، مازالوا أوفياء لمهنتهم، حريصون على ميثاق شرفها، والدليل على ذلك أننا نعرف الفاسدين منا بالاسم، نستطيع أن نحاسبهم، ونفضحهم، ونطهر مهنتنا من دنسهم، بشرط واحد: أن تسمح لنا الدولة!
الجريدة الرسمية