مرة أخرى.. السادات وتمويل الإخوان في وثيقة CIA
بالانزعاج والدهشة، استقبل كثير من القراء مقالنا الأخير من فوق منصة "فيتو" حول دور الحكومة المصرية في عهد الرئيس الراحل أنور السادات في دعم جماعة وأفراد الإخوان المسلمين بعد إخراجهم من السجون، التي أمضوا فيها حقبتي الخمسينيات والستينيات في عهد ناصر، ودفع ألف جنيه عن كل سنة سجن، ووصفت الوثيقة المخابراتية الأمريكية هذا الإجراء من جانب الحكومة المصرية أنه "عن غير قصد".
وانزعج أستاذ الصحافة بجامعة بنها الصديق الدكتور عبد الله زلطة، وكتب لي التعليق التالي:
"يا أستاذ محمد: هل يعقل أن الرئيس السادات عوض كل إخواني بألف جنيه عن كل سنة سجن في عهد عبد الناصر؟! هذا كلام لا يعقل!! من أي بند كان يتم "صرف هذا المبلغ؟ لقد كانت ميزانية الدولة في عهد السادات متدنية جدا، وقد شاهدت بعض الوزراء يركبون السيارات الفيات ١٢٨ المكحكحة!
وكان الألف جنيه مبلغا ضخما وقتها، لقد عاصرت فترة السادات وكنت مندوب الأخبار الصوتية بالإذاعة في الرئاسة، واقتربت من الرئيس في مهام كثيرة ولم يكن السادات الشخص الذي يبعثر أموال الدولة على هذا النحو الفكاهي المذكور حتى لو كان في وثيقة أمريكية!"
والحق أني قارئ للوثيقة وناقل ما أغفلته مواقع وصحف، ولست أقصد بالطبع النيل من قصد ولا نية ولا شرف الرئيس الراحل أنور السادات، إنما قصدي وضع المعلومات للتاريخ والمراجعة والتصحيح، وإذا كانت المعلومة صادمة للصديق عبد الله زلطة فهي كانت كاشفة لعديد من القراء الأعزاء في الإعلام وفي الصحافة، تتقدمهم الدكتورة ليلى عبد المجيد عميدة كلية الإعلام السابقة.
لكن ليس هذا هو المهم على الإطلاق، بل المهم أن هذه الوثيقة التي وضعت في٢١ أبريل ١٩٨٦، تنبأت بأحداث، ونجح توقعها، وفشلت في توقعات، أخطأت قراءتها.. لكن من الواضح أنها كانت ترقب عن كثب نمو وحش يتقدم بضراوة ويتمكن من مفاصل الدولة المصرية.
تقول الوثيقة الواقعة، أو ما أفرج منها، في ٢٥ صفحة، إن:
"جماعة الإخوان، بعد عشر سنوات، يعني عام ١٩٩٦، ستصبح قوة إسلامية نافذة في مصر خلال العقد المقبل، لكنها لا تعتبر بعد تهديدا فوريا لحكم الرئيس مبارك...... وبعد سنوات من التشدد والأعمال ذات الطابع العسكري التي لم تحقق نجاحا، اتبعت الجماعة خلال السنوات العشر الماضية إستراتيجية متدرجة لتحقيق أهدافها في (جعل مصر دولة إسلامية تحكمها الشريعة وتقلل من التأثير الغربي عليها)، ومن ثم فإن استقرار حكم مبارك كان يخدم أهداف الجماعة على أفضل وجه".
وتقول الوثيقة في جزء خطير الدلالة منها: نعتقد أن ازدياد قوة الإخوان المسلمين جنبا إلى جنب مع تحرك المجتمع المصري نحو الاتجاه المحافظ والتشدد، كلاهما سيحد من قدرة مصر على التعاطف مع الأهداف الأمريكية، والسياسات والمبادرات في الشرق الأوسط، ورغم أنه من غير المرجح أن ينحني مبارك للضغوط الأصولية في المدى القريب، فإنه قد يرفض محاولات دبلوماسية لتسوية سلمية أو التعاون العسكري، وهو ما قد يراه الإخوان مزيدا من الانحياز للمصالح الأمريكية في المنطقة".
هكذا رأت المخابرات الأمريكية عواقب ازدياد قوة الإخوان، فماذا رأت في ضعفها؟ وهل ترى أن أضعافها يخدم المصالح الأمريكية!؟
قالت بالحرف الواحد إنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تكون جماعة الإخوان ضعيفة! قالت:
"إن ضعف جماعة الإخوان لن يفيد المصالح الأمريكية، فالسلطة السياسية التي ستفقدها الجماعة ربما يكتسبها المتطرفون الإسلاميون، الذين هم أقل قبولا ومواءمة مع الولايات المتحدة، والثقافة الغربية وبالعلاقات المصرية الإسرائيلية، وبالمبادرات الأمريكية تجاه أزمة الشرق الأوسط".
وكما نرى فإن الرؤية الأمريكية وفق تقرير المخابرات المبني على إفادات السفارة الأمريكية بالقاهرة في ذلك الوقت، أبريل ١٩٨٦ عقب أحداث الأمن المركزي في القاهرة ونزول الجيش وتوجيه أصابع الاتهام لجماعة الإخوان كقوة تحريضية، فإن المحللين الأمريكيين لم يروا أبدا أن الجماعة في حد ذاتها متطرفة، رغم الإشارة إلى تخليها عن العمل العسكري والأخذ بمنهج تصالحي مع دولة مبارك..
الذي هادنهم فيها وازدهروا اقتصاديا وانتشروا، حتى بانت مخالبهم وقويت اتصالاتهم مع السفارة الأمريكية بعد عام ٢٠٠٢، تصور المحللون بالمخابرات الأمريكية أن هذه الجماعة بديل للتطرف، رغم أنها البطن الدنسة التي أخرجت إلى الوجود محمد مرسي والبلتاجي والشاطر وبديع والعريان وكل من قتل أبناءنا في الجيش وفي الشرطة وهدد استقرار الوطن من الدواعش والقتلة والإرهابيين والخونة.
يرى التقرير الوثائقي لـCIA ضعفها قوة للإرهاب، ولم ينتبه إلى أنها هي الإرهاب، فهل يختلف عام ١٩٨٦ عن عام ٢٠١٨؟
ترى ماذا يكتبون الآن وكيف يحللون؟ ربما يعرف ذلك كتاب جدد وقراء جدد في العقود المقبلة!!