الصحافة المطبوعة ضحية «المضمون والزمن»!
القرار الذي اتخذته الهيئة الوطنية للصحافة بزيادة أسعار الصحف، وهو القرار الذي تأجل تنفيذه حتى يتم الاجتماع برؤساء تحرير الصحف، أعاد أزمة الصحافة المطبوعة إلى الواجهة الإعلامية، فصار الإعلاميون والمختصون بالبحث والدراسة يلومون الإدارة الفاشلة للمؤسسات الصحفية تارة وضعف المضمون تارة أخرى. الجميع يعرف -وإن كان لا يصدق- أن الهيئة الوطنية للصحافة ليست مسئولة عما وصلت إليه الصحافة المطبوعة، ولكنها كتبت فقط "تتر" النهاية.
قرار الهيئة الوطنية للصحافة يعني –بالنسبة لي على الأقل– أن الهيئة قررت إطلاق رصاصة الرحمة، ورفع أجهزة التنفس الصناعي عن الصحف، لأن القارئ تحول إلى مشاهد، ومستخدم لوسائل أكثر تقدمًا منذ زمن غير قليل، والمعلن تبخر في الهواء، بفعل ثورة المضمون الترفيهي المجاني الذي تقدمه القنوات الفضائية والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
قرار الهيئة الوطنية للصحافة سيقضي على البقية الباقية التي تشتري الصحف والمعلنين إن وجدوا.
الحلول والاقتراحات التي وضعتها الهئية لإنقاذ الصحف المطبوعة بإنشاء مصنع للورق لمواجهة الزيادة المطردة في أسعاره عالميًا، والاستفادة من تطوير توزيع الصحف المطبوعة في المدن الجديدة، لأن المدن الجديدة – "سوق كبير جدًا، لا نستفيد منه" – حسب قول كرم جبر رئيس الهيئة – لن تنقذ الصحافة المطبوعة طالما كانت الصحافة المطبوعة مدفوعة، فلماذا يشتري القارئ مضمونا يحصل عليه مجانا من وسائل أخرى؟
هناك فريق من الإعلاميين يرى أن حلول الهيئة الوطنية للصحافة يجب أن تتواكب مع تغيير شامل وجذري في مضمون الصحف المطبوعة. ويراهن هذا الفريق على المضمون باعتباره "سر" نجاح الوسيلة الإعلامية وأنه "القوة" التي تضمن استمرار الصحف والمجلات في الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية.
الأقتراح بتغيير المضمون وجيه، ولكنه لا يتجاوز حدود الوجاهة الشكلية، لأن المضمون يجب أن يكون مجانيًا، وأن يتجاوز خطوط حمراء لم تتعود معظم الصحف المطبوعة على الاقتراب منها.
دعونا في البداية نتفق أن الصحافة المطبوعة يجب أن تتخلى عن "إصدارتها اليومية وعن خبريتها وتقاريرها الميتة زمنيًا لتتحول إلى صحافة أسبوعية مجانية، صحافة رأي، استقصائية، صحافة قومية وخاصة معارضة يمكن تضايق الحكومة وتجعلها تفكر في إغلاقها دون أن تتخذ قرارا بالإغلاق أو المصادرة.
عندما تتبنى الصحف المطبوعة هذا الاتجاه سيأتي المعلن إلى الصحف المطبوعة لأنه يعرف أن إعلانه سيتمتع بنسب مشاهدة عالية، ليس لأن الصحف مجانية فقط ولكن لأن مضمونها جريئًا وغير موجود على القنوات الفضائية، ولأنه سيحصل على "طعم" المضمون نفسه الذي تقدمه "السوشيال ميديا" ولكن "رائحته" ستخلو من "الشائعات".
ولكن لأن الصحافة المطبوعة في مصر وبخاصة القومية منها تعودت على أن تسير "بجانب الحيط" و"بداخله" في معظم الأحيان، فإن تغيير المضمون لجذب القارئ الذي "مل" الصحافة المطبوعة من زمن طويل و"أدمن" السوشيال ميديا سيكون صعبًا.
المتفائلون بفكرة "بعث" الصحافة المطبوعة من جديد يدللون على ذلك بالقوة التي تتمتع بها بعض الصحف والمجلات في الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وبرغم الاختلاف في السياق وفي الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فأن التقارير لا تؤيد ما يقولون، ولا أعرف في الحقيقة على أي المصادر يعتمدون. فالموت البطئ لصناعة الصحافة المطبوعة موثقًا بالتقارير.
"ريك أدموند" – محلل اقتصاديات وسائل الإعلام في موقع "بوينتر" Poynter المتخصص في الصحافة كتب في عام 2009 ليقول أن الصحف المطبوعة أدت إلى خلق عجز 1.6 بليون دولار في صناعة الأخبار. تقرير الـ"بيزنس انسيدر" Business Insider رصد أفول الصحافة المطبوعة في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2012 ووصفها بكونها من أسرع الصناعات تقلصًا. التقرير نفسه رصد تخلي الصحف المطبوعة عن 28.4% من صحفييها بين عام 2007 و2011.
حتى المجلات التي كانت تحظى بنسبة مبيعات عالية لكونها تختص بالمضمون الخاص بالمشاهير والموضة وأسلوب الحياة فقدت الكثير من مبيعاتها. دعونا نأخذ العام الماضي نموذجا..
فاستثناءات نادرة تتمثل في مجلة "الأيكونوميست" The Economist التي زادت نسبة مبيعاتها بنسبة 5% في 2017، و"بروسبكت" Prospect التي قفزت مبيعاتها من 37% إلى 44%، فإن الكثير من المجلات الشهيرة فقدت مبيعاتها في 2017، حيث فقدت مجلة "لووك” Look 35 % من مبيعاتها، مجلة "كلوسر" Closer فقدت 19.8% من توزيعها، وكذلك مجلة "ناو" Now التي فقدت 20% من مبيعاتها، والقائمة طويلة وتضم مجلات "فوج" Vogue، و"ستار" Star، "هيت" Heat، و"أوكى" OK، وغيرها من المجلات.
دوجلاس ماكلنان وجاك مايلز من صحيفة "الواشنطن بوست" رصدا التراجع الكبير للصحف المطبوعة في تقرير في مارس 2018 حيث قالا إن توزيع الصحف المطبوعة في الولايات المتحدة تقلص من 60 مليون نسخة في عام 1994 إلى 35 مليون في العام الحالي، فيما هبطت الأرباح التي جنتها الصحف من الإعلانات من 65 بليون دولار في عام 2000 إلى 19 بليون دولار عام 2016.
وإذا كانت الصحافة المطبوعة ما زالت تتنفس بشكل شبه طبيعي في الولايات المتحدة المتحدة الأمريكية، فإن معظمها مات بالفعل في دولة مثل كندا، التي قال تقرير "الواشطن بوست" إن 27 صحيفة يومية فيها توقفت عن الصدور.
الأرقام تقول إن الصحف المطبوعة ضحية "للزمن" الذي غير أنواع الوسائل وطرق التواصل والتفاعل، وما لم تتحول الصحف المطبوعة إلى مجانية أو تتحول المضامين الإلكترونية والتليفزيونية إلى مدفوعة، لن "تقوم" الصحافة المطبوعة من جديد، وربما يرمي ذلك بالمستهلك في أحضان السوشيال ميديا، ويستغني عن التليفزيون والمواقع التقليدية على الإنترنت.
المؤكد أن الصحافة المطبوعة في مصر تصارع الموت، وحتى وأن كان الصحفيون يرون أن ذلك لن يحدث إلا على "جثتهم"، فإن نهاية الصحافة المطبوعة في مصر لن تكون شبيهة بالنهاية السعيدة لفيلم "على جثتي" للفنان أحمد حلمي، الذي "يُبتعث" فيه من جديد، بعد أن ظن الجميع فيه أنه مات.
الحلول والاقتراحات التي وضعتها الهئية لإنقاذ الصحف المطبوعة بإنشاء مصنع للورق لمواجهة الزيادة المطردة في أسعاره عالميًا، والاستفادة من تطوير توزيع الصحف المطبوعة في المدن الجديدة، لأن المدن الجديدة – "سوق كبير جدًا، لا نستفيد منه" – حسب قول كرم جبر رئيس الهيئة – لن تنقذ الصحافة المطبوعة طالما كانت الصحافة المطبوعة مدفوعة، فلماذا يشتري القارئ مضمونا يحصل عليه مجانا من وسائل أخرى؟
هناك فريق من الإعلاميين يرى أن حلول الهيئة الوطنية للصحافة يجب أن تتواكب مع تغيير شامل وجذري في مضمون الصحف المطبوعة. ويراهن هذا الفريق على المضمون باعتباره "سر" نجاح الوسيلة الإعلامية وأنه "القوة" التي تضمن استمرار الصحف والمجلات في الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية.
الأقتراح بتغيير المضمون وجيه، ولكنه لا يتجاوز حدود الوجاهة الشكلية، لأن المضمون يجب أن يكون مجانيًا، وأن يتجاوز خطوط حمراء لم تتعود معظم الصحف المطبوعة على الاقتراب منها.
دعونا في البداية نتفق أن الصحافة المطبوعة يجب أن تتخلى عن "إصدارتها اليومية وعن خبريتها وتقاريرها الميتة زمنيًا لتتحول إلى صحافة أسبوعية مجانية، صحافة رأي، استقصائية، صحافة قومية وخاصة معارضة يمكن تضايق الحكومة وتجعلها تفكر في إغلاقها دون أن تتخذ قرارا بالإغلاق أو المصادرة.
عندما تتبنى الصحف المطبوعة هذا الاتجاه سيأتي المعلن إلى الصحف المطبوعة لأنه يعرف أن إعلانه سيتمتع بنسب مشاهدة عالية، ليس لأن الصحف مجانية فقط ولكن لأن مضمونها جريئًا وغير موجود على القنوات الفضائية، ولأنه سيحصل على "طعم" المضمون نفسه الذي تقدمه "السوشيال ميديا" ولكن "رائحته" ستخلو من "الشائعات".
ولكن لأن الصحافة المطبوعة في مصر وبخاصة القومية منها تعودت على أن تسير "بجانب الحيط" و"بداخله" في معظم الأحيان، فإن تغيير المضمون لجذب القارئ الذي "مل" الصحافة المطبوعة من زمن طويل و"أدمن" السوشيال ميديا سيكون صعبًا.
المتفائلون بفكرة "بعث" الصحافة المطبوعة من جديد يدللون على ذلك بالقوة التي تتمتع بها بعض الصحف والمجلات في الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وبرغم الاختلاف في السياق وفي الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فأن التقارير لا تؤيد ما يقولون، ولا أعرف في الحقيقة على أي المصادر يعتمدون. فالموت البطئ لصناعة الصحافة المطبوعة موثقًا بالتقارير.
"ريك أدموند" – محلل اقتصاديات وسائل الإعلام في موقع "بوينتر" Poynter المتخصص في الصحافة كتب في عام 2009 ليقول أن الصحف المطبوعة أدت إلى خلق عجز 1.6 بليون دولار في صناعة الأخبار. تقرير الـ"بيزنس انسيدر" Business Insider رصد أفول الصحافة المطبوعة في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2012 ووصفها بكونها من أسرع الصناعات تقلصًا. التقرير نفسه رصد تخلي الصحف المطبوعة عن 28.4% من صحفييها بين عام 2007 و2011.
حتى المجلات التي كانت تحظى بنسبة مبيعات عالية لكونها تختص بالمضمون الخاص بالمشاهير والموضة وأسلوب الحياة فقدت الكثير من مبيعاتها. دعونا نأخذ العام الماضي نموذجا..
فاستثناءات نادرة تتمثل في مجلة "الأيكونوميست" The Economist التي زادت نسبة مبيعاتها بنسبة 5% في 2017، و"بروسبكت" Prospect التي قفزت مبيعاتها من 37% إلى 44%، فإن الكثير من المجلات الشهيرة فقدت مبيعاتها في 2017، حيث فقدت مجلة "لووك” Look 35 % من مبيعاتها، مجلة "كلوسر" Closer فقدت 19.8% من توزيعها، وكذلك مجلة "ناو" Now التي فقدت 20% من مبيعاتها، والقائمة طويلة وتضم مجلات "فوج" Vogue، و"ستار" Star، "هيت" Heat، و"أوكى" OK، وغيرها من المجلات.
دوجلاس ماكلنان وجاك مايلز من صحيفة "الواشنطن بوست" رصدا التراجع الكبير للصحف المطبوعة في تقرير في مارس 2018 حيث قالا إن توزيع الصحف المطبوعة في الولايات المتحدة تقلص من 60 مليون نسخة في عام 1994 إلى 35 مليون في العام الحالي، فيما هبطت الأرباح التي جنتها الصحف من الإعلانات من 65 بليون دولار في عام 2000 إلى 19 بليون دولار عام 2016.
وإذا كانت الصحافة المطبوعة ما زالت تتنفس بشكل شبه طبيعي في الولايات المتحدة المتحدة الأمريكية، فإن معظمها مات بالفعل في دولة مثل كندا، التي قال تقرير "الواشطن بوست" إن 27 صحيفة يومية فيها توقفت عن الصدور.
الأرقام تقول إن الصحف المطبوعة ضحية "للزمن" الذي غير أنواع الوسائل وطرق التواصل والتفاعل، وما لم تتحول الصحف المطبوعة إلى مجانية أو تتحول المضامين الإلكترونية والتليفزيونية إلى مدفوعة، لن "تقوم" الصحافة المطبوعة من جديد، وربما يرمي ذلك بالمستهلك في أحضان السوشيال ميديا، ويستغني عن التليفزيون والمواقع التقليدية على الإنترنت.
المؤكد أن الصحافة المطبوعة في مصر تصارع الموت، وحتى وأن كان الصحفيون يرون أن ذلك لن يحدث إلا على "جثتهم"، فإن نهاية الصحافة المطبوعة في مصر لن تكون شبيهة بالنهاية السعيدة لفيلم "على جثتي" للفنان أحمد حلمي، الذي "يُبتعث" فيه من جديد، بعد أن ظن الجميع فيه أنه مات.