رئيس التحرير
عصام كامل

أوامر عليا.. دولة السكرتارية


تحتل كلمة "فوق" مكانة كبيرة في أية لغة، وفي أية ثقافة، لأنها تعني العلو والارتفاع عن الأرض، وهي في مدلولها السياسي تعني المنصب، الرفيع أو الوسيط، أو حتى فوق الوسيط، أو دون الوسيط، وهي في المال تعني حائز الثروة أو المتمتع بدخل يتيح له أن يترفع وأن يتلوع، وأن يلوي عنقه متأففا، في كل الثقافات توجد هذه المعاني بدرجات متفاوتة وحادة، فتسمع أن فلان الفلاني فوق، وعن القوم الذين هم فوق، بل وفوق الفوق!


في بلدنا، بالذات في بلدنا، الذين فوق هم الحكام، وليس بالضرورة الحاكم، بل المجموعة التي تشاهدها بجوار الحاكم، وتسمعها تتحدث مع الحاكم أو تحتل مناصب غير منظورة في دائرة الحاكم، أو توجه أو تتوجه باسم الحاكم، خذ عندك مثلا، ودون قصد أسماء، السيد مدير مكتب معالي الوزير، وخذ عندك السيد مدير مكتب معالي رئيس مجلس الإدارة، ومعالي هذه أصبحت عادية جدا فكل من في البلد الآن معالي معالي، بل تتردد الآن على لسان رئيس الدولة لفظة دولة رئيس الوزراء، وكان يخاطب بها المهندس شريف إسماعيل تبجيلا وتوقيرا، وفيها استدعاء لأيام بروتوكولية من عهد فاروق الذي أطاح به ناصر الذي يعجب به النظام!

السيد مدير أي مكتب في العادة هو عينه ولسانه وأذنه وعقله ووسواسه القهري، وفي عهود الظلم يصير يده التي تبطش، أما في عهود السيولة والسَبهللة فاقتسام السلطة مع المدير حق من حقوق الضرورة وحماية أمن الكرسي الذي هو من أمن الوطن.

يملك مدير مكتب المدير أن يكون أمينا، كما يملك أن يكون عميلا لأهوائه ومصالحه وحساباته المصرفية، لكن للحق فإن المدير الحق يحسن غالبا اختيار من يملأ جنبات مكتبه، يعاون ولا يستغل اسمه ومنصبه الخطير.

مكاتب مديري رؤساء ووزارات وحكومات كان لها أدوار بائسة ومخجلة في تاريخ مصر الحديث، وبالذات في "الحقبة" الناصرية، وأحسب أن هزيمة يونيو ١٩٦٧ تجسيد مخز لدولة السكرتارية! يقبع المسئول في مكتبه، يحرق دهون مخه وشرايين قلبه ويسعى أن يكون مؤثرا بالخير، ويخرج على الناس مبشرا به، لا يدري أن السيد مدير مكتبه يعمل في الاتجاه المعاكس.

هو يقول يمين، والثاني يقول شمال، هو يقول هذا خطأ والثاني يقول هذا صح، وبالطبع لا يكون ذلك في مواجهة المسئول، بل في مواجهة الآخرين، ليبدو أنه مجرد أداة لتنفيذ الأوامر، وقد جرد المدير والوزير والمسئول من صلاحياته ومن سمعته، بالغواية وبالتبرير وبالتغرير وبسوء التقدير، بل هناك مديرو مكاتب يديرون مسئولين بمنهج التخويف، ففلان يعمل على الإطاحة بمعاليك، وفلان مش بيحبك، وعلان بيدبر لك عند الرأس الكبير، وعلان دمه تقيل ليس من طينتنا!

وإذا وقعت الواقعة واحتج مظلوم زجره مدير مكتب المدير، وإذا اجتمع مظلومون واحتشدوا برر السكرتير الفعل الذي ظلمهم أنها أوامر من فوق، ولو أتيح للمسكين القابع وراء ملفات وتقارير وألسنة الفح اليومي لسكرتاريته، أن يخرج وأن يصغي بنفسه وأن يعرف ماذا يجري، لأحسن إقامة الميزان ولحقق العدل، أخطر من منصب الرئيس رجال الرئيس، له وعليه، وعلينا جميعا، وأخطر من منصب الوزير سكرتيره ومدير مكتبه، وأخطر من منصب رئيس الشركة الست اللعوب سكرتيرته، ليست بالضرورة لعوبا إنما يحدث أحيانا!

الدولة تتجسد تنفيذيا في النظام، وقوة النظام في عدالته وعينه المبصرة بذاته لا بعين غيره، وحين تتمحور الدولة نظاما، فذاك نذير شؤم، وسوء تدبير.

ليست هذه أوامري بل هي أوامر فوقية..

فوقية الحقيقة مظلومة لأنها لا تعلم، ارفعوا أيديكم عن فوقية التي ستَبيعونها رخيصة لو وقعت الواقعة وأزفت الآزفة وستَشهدون ضدها لطوب الأرض.

يا كل مدير.. راجع مديرك وتأكد أنه لا ينطق باسمك ولا يدير الأرزاق والمنافع باسمك مستحلا منصبه ليؤذي الناس أو يتربح أو يتطاول أو يقاسمك المقعد ولو بالجلوس تحته وأنت فوقه!
أهل الثقة ليسوا بالضرورة دوما أهلا للثقة.
الجريدة الرسمية