وداعا صلاح عمارة.. «الراجل الجدع»
كان صباح كئيبًا، الأشياء فيه حزينة والعتمة تملأ جنبات المكان، حتى عملية التنفس أصبحت ثقيلة، بعد قراءة بضع كلمات تعلن عن وفاة "الراجل الجدع" الأستاذ صلاح عمارة، رئيس الإدارة المركزية للمتابعة وتقويم الأداء بوزارة التربية والتعليم والتعليم الفني.
العلاقة بيني والحاج "صلاح"، كما كان يحب أن نناديه، تجاوزت علاقة صحفي بمصدر مسئول إلى فضاءات رحبة من الصداقة والاحترام المتبادل، تلك المساحة التي تجعلك ترى الجوانب الخفية في شخصية المسئول الذي تتعامل معه، ويشهد الله أن الحاج "صلاح" كان شفافًا نقيًا، ولم يكن يوارب أو يداهن، ولم يكن يخشى أحدًا، دافعه في العمل كان نابعًا من ضميره وحرصه الدائم على الفهم والمثابرة من أجل تحقيق ما يسعى إليه.
لم يكن "صلاح عمارة" مجرد قيادة في وزارة التربية والتعليم؛ بل تحول إلى حالة إنسانية استثنائية في حياة كل الموظفين الذين تعاملوا معه، فالرجل كان يعلي القيم الإنسانية على كل الاعتبارات، وعلى الرغم من ذلك فهو لم يكن يتهاون في الخطأ، ووجهه البشوش يتحول فجأة إلى بركان غضب إذا ما حدث ما يدعو إلى ذلك، كان أستاذًا في فهم قوانين المزايدات والمناقصات، كان خبيرًا في عالم قطاع الكتب ودهاليزه وأسراره، ويكفيه أنه تمكن من خلال دراسة أعدها قبل سنوات أن يكشف عن أكثر من 25 مليون جنيه كانت مهدرة على الوزارة بسبب عدم تحصيل قيمة محاضر المخالفات ومحاضر التأخير على العديد من المطابع.
وفي معركة تزوير شهادات الدبلومة الأمريكية كان حاضرًا، وبذل جهدًا كبيرًا وواجه تهديدات ضخمة – كنت شاهدًا على بعضها- لكنه لم يسكت، ولم يصمت، ويكفي "صلاح عمارة" أنه رجل لم يحقق استفادة شخصية مثلما فعل كثيرون ممن سبقوه في تقلد المناصب نفسها التي شغلها الراحل، فالرجل الذي تولى مسئولية التعليم الخاص والدولي لم يكن يمتلك سيارة يتنقل بها، ولم يمتلك شقة فاخرة في حي من الأحياء الراقية كما هو حال موظفين صغار أقل كثيرًا من كفاءة وقيمة "صلاح عمارة"؛ بل ظل حياته ينتقل من الوزارة إلى منزله والعكس عن طريق سيارات الأجرة (الميكروباص) من مقر وزارة التربية والتعليم إلى محل سكنه في منطقة الإمام الشافعي بمصر القديمة.
كثير من أصحاب المدارس الخاصة والدولية، كانوا يتعجبون لحال "صلاح عمارة"، كيف لمن يدير التعليم الخاص على مستوى الجمهورية أن يكون هذا حاله، وهو إن أراد أصبح ثريًا وامتلك بدلا عن السيارة اثنتين وثلاث؛ لكن الرجل لم يكن يعنيه غير أن يخرج منها بكف أبيض.
ربما يكون "صلاح عمارة" من القيادات القليلة التي كانت لها مواقف مشهودة مع وزراء التعليم، فبعد استبعاده من الإدارة العامة للتعليم الخاص بقرار معيب قانونًا لم يصمت على حقه، ورفع دعوى قضائية وربحها، ودخل معه وزير التعليم الحالي في مساومة لعدم رغبته في إعادة "عمارة" إلى التعليم الخاص، وربما كان لخبرة "صلاح عمارة" في هذا الملف سبب في عدم تنفيذ الحكم القضائي الصادر له بالعودة للتعليم الخاص، وانتهت المساومة بتَغاضيه عن تنفيذ الحكم مقابل توليه مسئولية الإدارة المركزية للمتابعة وتقويم الأداء.
ومع رحيل "عم صلاح" يجري أمام العين شريط ذكريات يمتد لمئات المواقف وعشرات الأسرار المكتومة، رحمة الله على الفقيد كان سمحًا في حياته كلها، فاللهم تقبله قبولًا حسنًا واغفر له وأسكنه فسيح جناتك.