رئيس التحرير
عصام كامل

سلام إلى روح «نوح»


متى يعرف الرجل الحق؟ وقت القتال، وقت القرار، وقت اللحظة الفارقة الداهمة في حياة من حوله قبل أن تكون في حياته هو، وهكذا عرفنا رجالا كثيرين في عمر هذا الوطن، أثناء المحن والاختبارات الكبرى القاسية، وقبل أيام، في الخامس من أغسطس، تذكرنا كلنا صرخة رجل في عز الهزيمة ينادي "مدد مدد مدد مدد شدي حيلك يا بلد" للموسيقار والفنان محمد نوح، الذي رحل عن عالمنا في عام ٢٠١٢، في عز القلق والتوتر وفقدان الهوية وحكم أهل الجاهلية!


كان بالتأكيد يتحسر على مصر التي أصبحت تحت حكم الإخوان الخونة مجرد ولاية في خلافة وهمية، محمد نوح تخرج في كلية التجارة جامعة الإسكندرية، لكن موهبته، ذهبت به وبالوجدان المصري كله إلى آفاق أرحب من الفن الذي سخره في خدمة الوطن، يشحذ الهمم ويرقي المشاعر ويعمق الانتماء، ويحرض الناس على العطاء بلا حدود.

في مدرج ٧٨ بكلية الآداب الشهير الذي تعلم فيه كثيرون من أبناء جيلي، سمعت للمرة الأولى في حياتي "محمد نوح"، وكنا مهزومين، ونعاني الضياع وعام الحسم، الذي وعد فيه السادات الشعب بإعلان الحرب وتحرير سيناء، وكانت الجامعة تغلي المحاضرات في جميع الكليات، والطلبة يهتفون داعين إلى حرب عرفنا فيما بعد أن "السادات" لم يكن جاهزا لها بعد، ولما دخل "نوح" المدرج بقامته الشامخة وعينيه الواسعتين وفيهما لمعة الابتسامة والثقة، وأطلق حنجرته القوية بكلمات شاعر المنصورة الجميل إبراهيم رضوان:

مدد وشدي حيلك يا بلد
إن كان في أرضك مات شهيد
فيه ألف غيره بيتولَد
بُكرة الوليد جاي من بعيد
راكب خيول فجره الجديد
يا بلدنا قومي واحضنيه
ده معاه بشاير ألف عيد
قومي انطقي وسيبك بقا
من نومة جوا في شرنقة
ده النصر محتاج للجَلَد
ومدد.. مدد.. مدد

لو كان في قلبك شيء قوليه
الحزن هيفيدك بإيه
يا سكة مفروشة بأمل
مشوارنا حُطّوا العزم فيه
يا بلدنا سيبك م الدموع
قومي إقلعي توب الخضوع
ده الحق لسه بيتجلد
ومدد مدد.. مدد مدد

مدد مدد.. مدد مدد..
شدى حيلك يا بلد.

ورغم أغانيه الكثيرة من تراث خالد الذكر سيد درويش التي حققت شهرته، فإن المصريين لا يزالون يربطون اسم "محمد نوح" بأغنية مدد مدد شدي حيلك يا بلد، يحزن شقيقه الفنان التشكيلي والموسيقار- أيضا - حسين نوح لأن لعمنا الكبير ألحانا وأغاني أخرى كثيرة له ولغيره، لكني أجد أن المصريين يقرنون الموسيقار الراحل بأعز شعور حفره في وجدانهم وقت الغرق!

فأنت لن تنسى قط ملامح ولا كلمات شخص ألقى إليك بطوق النجاة وأنت تحترق أو تغرق.

من الإسكندرية إلى جامعة ستانفورد الأمريكية، حيث درس "نوح" التأليف الموسيقي وقدم بعدها للناس مؤلفاته الموسيقية العديدة، وعرف عنه براعته في العزف على العود والبيانو والكمان والناي، ولحن موشحات وأغنيات لنجاح سلام وعلي الحجار ومحمد الحلو ومحمد ثروت وعفاف راضي.. كما وضع الموسيقى التصويرية للمهاجر إخراج يوسف شاهين، وأخرج فيلما قصيرا بعنوان "رحلة العائلة المقدسة"..

وشارك صلاح منصور رائعة أبو سيف في "الزوجة الثانية"، وشارك في "شباب في العاصفة" و"السيد البلطي" وقدم للمسرح "سحلب" و"انقلاب" منتجا وممثلا، فضلا عن مسلسلات "ثمن الخوف" و"سوق الحلاوة" و"ألف ليلة وليلة".

كان "محمد نوح" سحابة هائلة ممطرة بألوان قوس قزح من الفن، في مسارات عديدة، التمثيل والتدريس والتأليف الموسيقي والغناء والعزف والتصوير بالموسيقى والإنتاج الفني.

ولا بد أن قلبه الذي ظل ينبض بحب هذا البلد منذ خرج إلى الحياة في أول يناير عام ١٩٣٧؛ لم يتحمل ما جرى لمصر والمصريين في عام السواد والغربان تحت حكم الإخوان، فأسلم الروح المتقدة، إلى البارئ لتسكن وترتاح بعد رحلة عطاء في عز جفاف وجفاء الظرف الوطني.

بذل "محمد نوح" لمصر فنه وقت الهزيمتين: هزيمة يونيو ١٩٦٧ وهزيمة يناير ٢٠١١. فلتهدأ روحك يا "نوح" فأخوك "حسين نوح" لا يزال يضئ الطريق الذي اصحطبته فيه وعلمته أبجدياته، ويقدم للوطن فنه وفنك، إبداعا لا ينقطع، من أدب إلى فن تشكيلي إلى مسرح، ولا تزال سفينة "نوح" تشق الموج الهائج محملة بالأخيار من مبدعي الفن الصادق وعشاق الوطنية المصرية.
الجريدة الرسمية