دين الحب (2)
الإسلام هو دين الحب.. ومن بين الروايات التي تثير الشجون، وتستمطر الدموع من العيون، وتهز الكيان العاقل.. قصة تحمل العبر والدلالات؛ الحب، والعطف، والوفاء، والرجولة، والمروءة.. ولم لا فهي قصة حب ازدهرت تحت راية الإسلام، وبرعاية نبوية شريفة، بين السيدة زينب ابنته، وابن خالتها.
تزوجت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وسلم، من ابن خالتها أبو العاص بن الربيع ابن هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة، في الجاهلية.
وقد وافق الرسول صلى الله عليه وآله، وسلم، على مصاهرته وتزويجه من ابنته فور تقدمه لها، وكان أبو العاص نعم الصهر والنسب، كما أعلنها رسول الله صلى الله عليه وآله، وسلم، لكن جاءت الرسالة لتكون بداية فراق مرير وطويل بين الزوجين الحبيبين.
كان أبو العاص يتغنى بحب زوجته زينب في كل وقت، وكان يؤلف ويردد الشعر فيها حينما يخرج في القوافل التجارية تعبيرًا عن حبه لها، وذات يوم سمع أبو العاص بما يقوله المشركون عن رسولنا الكريم، فذهب إلى زوجته يشكو إليها ضيقه، فإذا بها تُعلن له أنها أسلمت! فماذا كان رد فعله؟ لم يتهمها بالخداع أو الكذب، إنما اعتذر لها بلطف ورقة قائلًا: "والله ما أبوك عندي بمتهم، وليس أحب إليَّ من أن أسلك معك يا حبيبة في شعب واحد، لكني أكره لك أن يقال: إن زوجك خذل قومه وكفر بآبائه إرضاء لامرأته فهلا عذرت وقدرت".
فقالت: ومن يعذر إنْ لم أعذر أنا؟ أنا زوجتك أعينك على الحق حتى تقدر عليه.
وبعد ذلك قرر المشركون أن يطلِّق رجال قريش بنات الرسول صلى الله عليه وآله، وسلم، وكان رسول الله حينها له ثلاث بنات متزوجات من رجال قريش، وقد وافق ابنا أبي لهب على تطليق زوجاتهم، لكنَّ أبا العاص كان له موقفٌ آخر، حيث رفض الزوج المحب المخلص أن يطلق زوجته، وقال: "لا والله إني لا أفارق صاحبتي وما أحب أني لي بها نساء الدنيا جميعا".
ومن أصعب المواقف التي مرا بها معًا عندما خرج أبو العاص مع قريش لمحاربة جيش المسلمين في بدر، فكان موقفًا شديدًا وصعبًا جدًا على زينب الممتحنة في حبها لزوجها وحبها الأكبر لدينها وأبيها.. كانت زينب، رضي الله عنها، تدعو الله سبحانه وتعالى أن ينصر والدها على أعداء الله، وأن يحفظ زوجها من كل سوء على الرغم من عصيانه لله وشركه به.
انتصر المسلمون، فسجدت شكرًا لله.. ثم سألت: وماذا فعل زوجي؟ فقالوا: أسره حَمُوه.. فقالت: أرسل في فداء زوجي، ولم يكن لديها شيء ثمين تفتدي به زوجها، فخلعت عقد أمها الذي كانت تُزيِّن به صدرها، وأرسلت العقد مع شقيق أبي العاص بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وسلم، وكان النبي جالسًا يتلقى الفدية ويطلق الأسرى، وحين رأى عقد السيدة خديجة سأل: هذا فداء من؟
قالوا: هذا فداء أبو العاص بن الربيع، فبكى النبي وقال: هذا عقد خديجة، ثم نهض وقال: أيها الناس؛ إنّ هذا الرجل ما ذممناه صهرًا فهلا فككت أسره؟ وهلا قبلتم أنْ تردوا إليها عقدها؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، فأعطاه النبي العقد، ثم قال له: قل لزينب لا تفرطي في عقد خديجة، ثم قال له: يا أبا العاص هل لك أن أساررك؟ ثم تنحى به جانبًا وقال له: يا أبا العاص؛ إنّ الله أمرني أنْ أُفرِّقَ بين مسلمة وكافر، فهلا رددت إليّ ابنتي؟
فقال: نعم.
وخرجت زينب تستقبل أبا العاص على أبواب مكة، فقال لها حين رآها: إنّي راحل.
فقالت: إلى أين؟ قال: لست أنا الذي سيرتحل، بل أنت سترحلين إلى أبيك.
فقالت: لم؟ قال: للتفريق بيني وبينك.. فارجعي إلى أبيك، فقالت: فهل لك أن ترافقني وتُسْلِم؟ فقال: لا.
فأخذت ولدها وابنتها وذهبت إلى المدينة، وبدأ الخُطَّاب يتقدمون لخطبتها على مدى 6 سنوات، وكانت ترفض. وبعد 6 سنوات كان أبو العاص قد خرج بقافلة من مكة إلى الشام، وأثناء سيره يلتقي مجموعة من الصحابة، فسأل عن بيت زينب، وطرق بابها قبيل آذان الفجر، فسألته حين رأته: أجئت مسلمًا؟ قال: بل جئت هاربًا، فقالت: فهل لك إلى أنْ تُسلم؟ فقال: لا.
قالت: فلا تخف.. مرحبًا بابن الخالة.. مرحبًا بأبي علي وأمامة.
وبعد أن أمَّ النبيُّ المسلمين في صلاة الفجر، إذا بصوت يأتي من آخر المسجد: قد أجَرْت أبا العاص بن الربيع، فقال النبي صلى الله عليه، وآله، وسلم: هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم يا رسول الله.
قالت زينب: يا رسول الله إنّ أبا العاص إن بَعُد فابن الخالة وإنْ قرب فأبو الولد وقد أجرته يا رسول الله، فوقف النبي صلى الله عليه وآله، وسلم، وقال: يا أيها الناس إنّ هذا الرجل ما ذممتُه صهرًا، وإنّ هذا الرجل حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي، فإن قبلتم أن تردوا إليه ماله وأن تتركوه يعود إلى بلده فهذا أحب إلى، وإن أبيتم فالأمر إليكم والحق لكم ولا ألومكم عليه.
فقال الناس: بل نعطه ماله يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وآله، وسلم: قد أجرنا من أجرت يا زينب، ثم ذهب إليها عند بيتها، وقال لها: يا زينب أكرمي مثواه فإنّه ابن خالتك وإنّه أبو العيال، ولكن لا يقربنّك، فإنّه لا يحل لك.
فقالت: نعم يا رسول الله.
فدخلت وقالت لأبي العاص بن الربيع: يا أبا العاص أهان عليك فراقنا؟!. هل لك إلى أنْ تُسْلم وتبقى معنا، قال: لا.
وأخذ ماله وعاد إلى مكة، وفور وصوله إلى مكة وقف، وقال: أيها الناس هذه أموالكم، هل بقي لكم شيء؟ فقالوا: جزاك الله خيرًا وفيت أحسن الوفاء، قال: فإنّي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم دخل المدينة فجرًا وتوجه إلى النبي وقال: يا رسول الله أجرتني بالأمس، واليوم جئت أقول أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
وقال أبو العاص: يا رسول الله هل تأذن لي أنْ أراجع زينب؟ فأخذه النبي، وقال: تعالَ معي، ووقف على بيت زينب وطرق الباب.
وقال: يا زينب إنّ ابن خالتك جاء لي اليوم يستأذنني أنْ يراجعك فهل تقبلين؟ فاحمرّ وجهها وابتسمت.
وبعد سنة من هذه الواقعة توفيت السيدة زينب، رضي الله عنها، فبكاها العاص بكاء شديدًا حتى رأى الناس رسول الله يمسح عليه ويهون عليه، فيقول له: والله يا رسول الله ما عدت أطيق الدنيا بغير زينب، ومات بعد سنة من وفاة زوجته، وحبيبته.
الحب في الإسلام ليس معصية، ما دام عفيفا، ولم يُرَد به إلا وجه الله.
متى يكون الحب حرامًا؟! هذا موضوع مقال مقبل إن شاء الله.