رئيس التحرير
عصام كامل

يسكنان عِشّة على النيل ولديهما 7 أبناء.. عم عصام وزوجته «سواحين في بلاد الله»

فيتو

داخل عشة متواضعة على ضفاف نهر النيل، يعيش عم عصام رجب وزوجته وأبناؤه السبعة، بلا سقف يحميهم من حرارة الشمس في الصيف أو قطرات المطر في الشتاء.


قصة عم عصام وزوجته تصلح فيلما سينمائيا، فالرجل الأربعيني طاف مع أم أولاده بلادا كثيرة من الأقصر إلى أسيوط إلى الجيزة ومنها إلى القاهرة.

بداية القصة من أرض سوهاج حينما شارف عصام، على عامه الـ 22 في وقت قررت فيه أسرته الارتحال من محافظة سوهاج إلى قلب القاهرة، وتحديدا إلى منطقة الوايلي، في تلك الفترة كانت روحه قد تشبعت بما يمليه عليها شيوخ الطريقة الرفاعية بالقرية النائية في قلب الصعيد: "أنا متعلمتش ولا دخلت مدارس آل البيت علموني!" هكذا قال عصام.

الرغبة في التصوف والابتعاد عن صخب الحياة الأسرية، تشبع بها صدر عصام اليوم تلو الآخر، حتى وافت المنية الأبوين وقرر صاحب البيت طرد الإخوة من الشقة، ليتفرقوا في كافة بقاع الأرض، "إخواتي موجودين لكن كل واحد في مكان محدش بيسأل على حد".


لحظة وفاة الأبوين، كانت النقطة الفاصلة التي رسمت خط سير حياة عصام وأبنائه منذ ثلاثين عامًا وحتى اليوم، تزوج من "فاطمة فؤاد" أو كما يُطلق عليها "أم رشا"، وجد فيها خير معين على استكمال مسيرة الزهد وتتبع نفحات آل البيت أينما حلّت، هام في بلاد الله خمسة وعشرين عاما، بين الأقصر وأسيوط وسوهاج والجيزة والسيدة زينب، متكئا على حب الزوجة ورباط العِشرة المقدس الذي ربط بينهما، تقول الزوجة أم رشا:"ملك اتولدت في الأقصر، ورشا في العياط، ومروة في أسيوط، وزينب في البساتين، ومؤمن في السيدة زينب ومحمد في الحسين، في كل مكان نروحه كنا بنقعد في الشارع، تحت كوبري في مدخل عمارة أي مكان، بلاد تشيلنا وبلاد تحطنا".

هكذا كانت حياة أم رشا وزوجها عصام رجب، الذي فقد ساقيه في حادث قطار قبل عدة سنوات من اليوم، وقبل أن يأويا برفقة الأطفال إلى الشجرة الضخمة الملاصقة لترعة معدية عثمان في منطقة السواح بالقاهرة.


منذ 10 سنوات أصيبت أم رشا بارتخاء الأعصاب، فقدت القدرة على الارتحال من هذه المحافظة لتلك، "قولتله يا عصام أنا تعبت، لازم نستقر، خاصة إني من نحو 10 سنين عجزت وحصل لي ارتخاء في الأعصاب من تكرار الكسور والردود في قدماي بسبب تعرضي للتعذيب على يد جماعة كنت بشتغل عندهم في منطقة عرب الحصار تبع مركز الصف في الجيزة بعد موت أمي وأبويا".

كانت اللحظة إيذانا بضرورة الاستقرار حين تهتدي نفس الزوج، " كل دنيتي لقيتها تحت شجرة معدية عثمان، أنام وأقعد تحتها، مرتاحتش إلا تحتها بعد ما ضاقت الدنيا بيا وأنا اللي كنت رحال فيها من شرقها لغربها".

في إحدى الليالي مر عليهما طبيب تجهل أم رشا اسمه، وعدهما ببناء حجرة صغيرة تقيهما والأبناء من مخاطر البقاء على قارعة الطريق، لكن هذا لم يكف وحده، ظلت الحجرة بلا باب يمنحها صفة الخصوصية ولو في نهاية كل يوم، باتت مرتعا للكلاب الضالة والقطط الباحثة عن مأوى ظليل يحكي عم عصام عن مأساته والدموع تتساقط من عينيه: "بقيت أقول يا رب أنا مش عايز حاجة من الدنيا اللي طول عمري زاهدها، لكن نفسي في بيت ألم بناتي وأسترهم تحت سقفه".


بعد تخفف أشعة الشمس من لسعتها الحارقة بعد ظهيرة كل يوم، ترتدي "أم رشا" البنطلون فوق الآخر، المحصلة أربع طبقات فوق بعضها، تخبئ الطرف السفلي للعباءة السوداء أسفل البنطلون، تبلل غطاء الرأس الأسود ببعض المياه، تزحف بخطى حثيثة نحو مدخل "العِشة"، حتى تصل للجوال الأصفر، وشنطة الفلوس: " بسرح على كوبري السواح ألم زجاجات فاضية وكانز البيبسي والكارتون في الشوال على ظهري".

ما يقرب من الساعة والنصف هي المدة التي تقطعها أم رشا زحفا حتى تصل إلى مطلع كوبري السواح، تلتفت إليها أعين المارة أو ركاب السيارات لا تعير الأمر اهتماما، تداوم على جمع البضاعة: "ولاد الحلال بيساعدوني جنب الفلوس اللي بتطلعلي من بيع الحاجات اللي لميتها".

تحاول الابنة الوسطى "مروة" معاونة العائلة من خلال جمع الزجاج والحديد "الخردة" وبيعه للورش المتخصصة في منطقة مسطرد، "بيطلعلي 20 جنيه في اليوم بديهم لأمي يساعدوها".


بالرغم من الآلام التي تأكل جسد أم رشا النحيل دون كلل، فإنها لا تزال تحمل الصفة ذاتها، "سند العائلة"، بحب وإخلاص باتت تدفع عجلة الحياة إلى الأمام، تعبر الظروف القاسية والحياة غير الآدمية، بحثا عن نظرة رضا تبدو في عين الزوج، كل ما يهمها البقاء حيث يبقى الزوج الذي تعلقت روحه بفروع الشجرة المتدلية على غطائه القطيفة البنفسجي، لا يبرحها إلا لتناول الطعام أو الخروج لجمع بعض الأموال من المتبرعين وأهل الخير، ثم ما يلبث أن يعود إليها مرة أخرى، لكن غريزة الأمومة تستعر بداخلها، أصبحت "عين في الجنة وعين في النار"، تريد البقاء مع الزوج، لكنهما يبحثان عن مأوى للفتيات الأربع بصفة خاصة، "إحنا نفسنا في أربع حيطان يتقفلوا على البنات يستروهم، إحنا مش دايمين لهم" تقول أم رشا باكية.
الجريدة الرسمية