رئيس التحرير
عصام كامل

لص صغير ولصوص كبار


صحيح نحن شعب ليس له كتالوج يفك شفرته، أو يسهل تركيب وفك وتشغيل الأجزاء المتنافرة والمتداخلة فيه. يفاجئك بخمول حيث تتوقع الفوران، ويُداهمك بثوران حيث تتوقع الهمدان!


أساتذة علم الاجتماع الحاليون محظوظون حقا، لأن خام المصريين يتفاعل يوميا تحت أنظارهم على صفحات التناحر والتفاضل الاجتماعي، على ما فيها من مبالغات ومن أكاذيب، ومن عنتريات.

علماء الاجتماع في الماضي كانوا يعتمدون على الرصد والمعايشة والتحليل للظواهر الاجتماعية المرتبطة بحياة المجتمع، لماذا هذا؟ لأن المصريين هبوا عن بكرة أبيهم خوضا وتحليلا وتمجيدا في صبية التهريب في بورسعيد. الموضوع أخذ أكبر من حجمه، وارتبط بموقف شهامة لرجل الأعمال المهندس نجيب ساويرس، آلمه أن يسرق صبي ليعول إخوته وأمه، فوفر له ولزملاء له عملا وهذا أمر يستحق الشكر.

لماذا أخذ أكبر من حجمه؟
للأسباب التالية أن بجاحة اللص الصغير (لا تنسوا أبدا أنه لص) أثارت سخط الجمهور على اللص الكبير، أي لص كبير وما أكثرهم! ثانيا أن اللص الصغير قدم للمجتمع المبرر الأخلاقي لارتكاب الفعل الإجرامي، فهو يصرف على أمه وأخواته البنات، وأن الـ١٥٠ جنيها في اليوم توفر له معيشة أفضل من عامل نظافة بخمسين جنيها يوميا.

ثالثا أن المذيعة سلمت نفسها تسليما لمنطق المقاوحة والبجاحة، ويذكرنا هذا المشهد تماما بمشهد عماد الدين أديب والإرهابي الشهير الذي ركب مخ عماد وألجمه!

رابعا أن القضية ليست عمل يوم بـ١٥٠ جنيها، فحسب بعض العارفين فإن الأجر يحتسب على طلعة التهريب الواحدة، يعني ممكن يقوم بطلتعي تهريب أو ثلاثة أو أربعة، والتصالح مكفول لو اتقفش! هي إذن مخاطرة محسوبة ومعروف أقصى ما فيها من عقاب... مالي!

لاحظت أن الهجوم كان ولا يزال ضاريا على المذيعة التي قيل إنها موظفة علاقات عامة بمكتب محافظ بورسعيد، وهي داهمتها وقاحة وسفور اللص الصغير، وأوقعت نفسها في ارتباك تراوح ما بين التحليل والتحريم من ناحية، والتسليم بالمبررات الاقتصادية القاسية التي خرجت على لسان الصبي المهرب.

لماذا الناس التمست العذر للص الصغير؟
لأنهم ساخطون على اللصوص الكبار! خلعوا عليه بطولة لجرأته، هو أراد أن يقول لست وحدي! أمسكوهم كما أمسكتم بي، تعاقبونني على عشرات الجنيهات، وملايين وملايين وملايين تخرج بسهولة ولا عقاب!

لم يخل صوت المهرب من موسيقى تصويرية، كان فيها شجن وإيقاع، وعزف على مشاعر الناس، ومفردات أختي والبنات وأمي، والعيشة، وانتى مش حاسة، ومش دريانة!

هذه المفردات في سياق استجواب تليفزيوني ساذج غير مؤهل تحقق في الغالب تأثيرا معاكسا في الرأي العام، وتقلب المزاج العام من الضد إلى التعاطف، ومن الاستنكار إلى المجاراة، بل وحشد الأسانيد المبررة وينزع الناس عادة إلى إسقاط الفعل الإجرامي في وعاء الغفلة وإعلاء المبرر الأخلاقي، سارق رغيف الخبز بسبب الجوع، هو سارق، لكن الجوع جريمة أكبر تحسب على المسئول، ما أراد المهرب تسويقه، بوعي أو بغير وعي، أنهم كلهم لصوص اشمعنى أنا!

ومن الطبيعي جدا أن يغمض الناس عن فعل السرقة وينتبهوا إلى دواعيه الاقتصادية، طالما أنهم وجدوا الفعل نفسه ترتكبه الدولة وقد أتاحت لقاتل، وليس مجرد سارق أو مهرب لديه مبرر اقتصادي، وهو هشام طلعت مصطفى دائم الظهور في اللقاءات الرئاسية، بدل المرة مرتين، يتحدى العقل العام ويكسره تكسيرا ويمنح نموذجا للتقليد!

إيجابية واحدة كشفت عنها بجاحة ووقاحة مهرب بورسعيد الصبي أن سوهاج وغيرها من مدن الصعيد ومحافظاته لا تزال يشقيها الفقر، ويطارد شبابها إلى القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، كما كشف هذا الحوار أن شباب اللقاءات الرئاسية مورق ولامع ومهندم ومتعلم وعارف ما يقوله، وهذا طبيعي ومطلوب، لكن يتعين على الدولة أن تدير عنقها نحو هؤلاء الصبية والفتيان المشردين، تسمعهم وتعالجهم اقتصاديا وأخلاقيا..

وأتصور أن جمع صبية الشوارع في مدارس وورش التأهيل الحرفي والمهني، وفق خطة تفصيلية، تراعي احتياجات السوق المصرية والعربية، هو حل عملي يحفظ كرامة الشباب، والوطن، فلا تلتبس الأحكام لدى الرأي العام ويتساوى المهرب بالبطل، والقاتل بالشرف.
القاتل غني فاحش الغنى، والسارق مشروع لص صغير.

راجعوا رواية أهل القمة للأديب الكبير نجيب محفوظ، جسدها نور الشريف وعزت العلايلي فيلما لعلي بدرخان!
والآن.. هل انتبهت الأجهزة الرقابية إلى لصوص الموانئ؟
نعم قبل أيام ضبطوا سرقات بمليوني جنيه في الإسكندرية.. بورسعيد لصوصها أكتر، اذهبوا إلى هناك.
الجريدة الرسمية