الانحياز للفقراء!
علمت بوفاة "جمال عبدالناصر" وأنا استقل ترام شبرًا مع الصديقين "أسامة الغزالى" و"عثمان محمد عثمان"، حيث فوجئنا بمن يدق بقوة وحدة على جدران عربة الترام، ويصرخ قائلا : "عبدالناصر مات.."
على الفور توقف الترام في شارع شبرًا، وخرج الركاب منه، وفى غضون دقائق قليلة امتلأ الشارع بالبشر، نساء ورجال، أطفال وصبية وشباب وكبار وعجائز، لا يعرفون أين يذهبون أو ماذا يفعلون، وما حدث في شارع شبرًا حدث في كل شوارع القاهرة، ومدن مصرية كثيرة، ملايين من المصريين خرجوا يصرخون وينتخبون وينشدون معا في صوت واحد: الوداع با جمال ياحبيب الملايين..
وظل الناس في الشوارع طوال الليل وحتى اليوم التالي، وعندما بدأت الجنازة الرسمية لـ"ناصر" أحاط الناس بجثمانه وهم يودعونه إلى مثواه الأخير..
وقد توقف كثيرون في العالم أمام هده الجنازة بانبهار ودهشة، لأنهم لم يسبق لهم مشاهدة جنازة مماثلة لزعيم وسياسي من قبل.. غير أن السر كان يكمن في ذلك الانحياز الذي اتخذه "جمال عبدالناصر" تجاه الفقراء في هذا البلد.. لذلك عندما مات فجاة خرج عموم المصريين يبكون أنفسهم من خلال بكائهم عليه، ويخشون على حالهم بعده.
إن خروج الملايين فور وفاة "عبدالناصر" يختلف كثيرا عن خروجهم له من قبل لاستقباله في مواقف شتى.. بل إنه يختلف أيضا عن خروجهم يوم التاسع من يونيو ٦٧، مطالبين إياه بالعدول عن استقالته، والبقاء على رأس السلطة حتى نزيل آثار الهزيمة ونسترد الأرض المحتلة.
وقد فهم "ناصر" ذلك بوضوح، وقال للوزراء في اجتماعات مجلس الوزراء الذي شكله بعد يونيو برئاسته، إن مظاهرات التاسع من يونيو ليست تأييدا أو تجديدًا لدعم الناس للنظام، وإنما هي دعوة لتغييره وتصحيح أخطائه، وقد صدق "ناصر" بالفعل، فلم تمض أكثر من ثمانية أشهر حتى اندلعت مظاهرات الطلبة والعمال في فبراير ٦٨، مطالبة بإصلاح سياسي شامل..
أما خروج الملايين من المصريين إلى الشوارع فور علمهم بوفاته، فقد كان من ناحية امتنانا لرجل انحاز لهم، ومن ناحية أخرى تعبيرا عن القلق عما ينتظرهم بعده.
وانحياز "عبدالناصر" للفقراء كان تطبيقا كاملا لشعار العدالة الاجتماعية الذي تبناه، فهو لم يطبق العدالة كما يراها البعض مساواة حسابية بين الجميع، أي بين القوى والضعيف، والغنى والفقير، وإنما هي انحياز للضعيف والفقير، مثل الأب الذي نردد قوله في أقوالنا الشعبية الذي كشف أن أحب الأبناء إلى قلبه هو الصغير حتى يكبر والمريض حتى يشفى والمسافر حتى يعود.
وهكذا الفقراء في المجتمع لا يحتاجون منا مزيدا من الدعم والعون والمساعدات والتبرعات والهبات، وإنما هم في أشد الحاجة للانحياز لهم، وتبنى سياسات تترجم هذا الانحياز.. وبذلك سوف ننفذ ما ألزمنا به دستورنا بخصوص العدالة الاجتماعية.