رئيس التحرير
عصام كامل

بدون «ماسنجر» و«واتس آب».. كيف احتفظ جيل التسعينيات بذكريات الطفولة (صور)

فيتو

ثمانية عشر عاما لم تكف سلمى طلبة "28 عامًا" لتطوي صفحات ذكريات العقد الأول مع صديقة العُمر رفيقة ليالي شتاء أبو ظبي "مي"، فبعد سنوات قضتها برفقة العائلة في إمارة أبو ظبي لطبيعة عمل الوالد، قررت أسرة سلمى مؤخرا الاستقرار بالقاهرة بصفة دائمة، وشاء القدر أن تنقطع أواصر الصداقة بين الفتاتين جراء هذا القرار.


ولأن الذكرى تنفع المُحبين وتجمع شتات سنوات الغياب والغربة، بدأت سلمى رحلة البحث عن "مي" عن طريق "فيس بوك" فتقول: "دخلت على جروب سكان أبو ظبي في التسعينيات، ونشرت صورة جماعية ليا مع تلاميذ المدرسة الابتدائية، لعل وعسى حد يدلني عليها، ولأنها كانت في فصل تاني كان الموضوع أصعب، حتى أضاف أحدهم تعليقا أنه على صلة قرابة بمي وسيسهل عملية التواصل بيننا في أقرب وقت".


""إلى صديقتي الحبيبة سلمى.. لا أدري ماذا أقول أو أكتب لكِ.. هذه الأيام التي قضيناها معا رائعة، وأنا لن أنساها طول حياتي".. خلال الثمانية عشر عاما، كان خطاب بخط اليد مزينة حوافه بألوان فسفورية لامعة، يحمل تلك العبارات، هو أنيس سلمى بعد انقطاع الأمل في العثور على صديقة العمر، واستعادة ما فقدتاه من أيام الطفولة والمرح في الشرفتين المتقابلتين في أحد أحياء أبو ظبي: "ما كناش بس أصحاب مدرسة واحدة هي كانت جارتي ورفيقتي اللي ما حستش من صداقتها بالغربة، كان لنا كلمات سر بنادي على بعضنا بها علشان نخرج ندردش في البلكونة".


رغم اقتراب المسافات بينهما فإن ذلك لم يمنع مي من أن تترك أثرا لا يزول في نفس سلمى، كلمات طفولية تنبض بالعفوية وعدم التكلف، بعيدا عن صخب "الدردشات" الإلكترونية ومحادثات "الماسنجر" باهتة الملامح، احتفظت بالتذكار أو كما أطلقت عليه "الجواب" برفقة بعض الصور التي تجمعهما معا، في مكان آمن، ليُسهل عليها إحضارهم كلما أرادت استعادة تلك الأيام، أو استحضار شخص مي أمامها: "وإحنا في أبو ظبي، ولما كنا في خامسة ابتدائي، قرر أهالينا أننا نرجع مصر، هي أعطتني عنوانها في المنصورة على أساس لما أرجع ألاقيها وأزورها، لكن على ما رجعت كانت مشيت وعزلت"، وبذلك انقطعت جميع السبل للقاء آخر بوطنهما الأم، ولم يبق لهما سوى إهداء مي لسلمى، حتى شاءت الأقدار أن تَجتمعا وتُوطدا علاقتيهما مجددا، "رجعنا زي زمان وأكتر" تقول سلمى.


في عام 1999 سافرت نيرة صديقة نجوى المقربة، ابنة عمها، إلى السعودية برفقة الوالد والإخوة، لقضاء إجازة الصيف معه، كانت الصديقتان في نهاية العقد الأول من عمرهما، تمضيان أغلب اليوم معًا في أحد شوارع حي العصافرة بالإسكندرية، حيث تقطن الجدة في بيت العائلة، لم تعرفا يوما ماذا يعني فراق الأحبة واغترابهم الذي يمكن أن يمتد لسنوات: "لما كانت بتسافر كانت لحظة مؤلمة وكان جوا دراميا عاليا"، تتحدث نجوى، لكنهما عرفا عن طريق الأهل أنهما يمكن أن تتحادثا وتتواصلا من خلال الخطابات، "الجواب كان بياخد أسبوع علشان يوصلي من عندها للإسكندرية، كنا بنحكي في كل حاجة وكل تفصيلة في يومنا كأننا ما افترقناش، مشاكلنا في المدرسة وخناقات الزملاء".

انفض الكون من حولها بغياب رفيقة الروح لتصبح هذه الوريقات والمصطلحات الطفولية الساذجة وسيلة التواصل بينهما لسنوات: "لحد ما دخلنا ثانوي هي رجعت علشان تدخل الثانوية العامة في مصر، وكنا بنروح المدرسة مع بعض، لكنها رجعت سافرت تاني ورجعنا للجوابات تاني، لكن كانت المرة دي مختلفة، نضجنا في الكلام اللي بنكتبه لبعض، كنا بنحكي عن زهق المذاكرة واكتئاب المراهقة، لحد ما استقرت في مصر ولحد الآن بنتقابل كلنا بأولادنا ونستعيد أيام الطفولة وجَواباتها مع أختها الصديقة الثالثة لبنى"، تتابع نجوى إبراهيم.


لم تكن الخطابات و"الأوتوجرافات"، التي لا يخلو ركن ما من حافظة ملابس أحد أبناء جيلي التسعينات ومطلع الألفينات منها، يحتكرها من باعدت بينهم المسافات بالسفر أو الانتقال للعيش في مكان آخر، بل أصحاب الفصل المدرسي الواحد، كانت لهم العادة ذاتها، طقس ثابت يحن وقته بانتهاء الفصل الدراسي، واقتراب حلول إجازة نهاية العام.


عكفت صديقات العشرينية "أماني" على فعله في نهاية كل عام، "تتسابق الفتيات على أجندتها السوداء، بالتتابع، كل واحدة تترك لها أثرها الخاص، كلماتها المختلفة رغم بساطتها: "أنا صاحباتي اتعودوا كل ما السنة تخلص يكتبوا لي حاجة وكمان المدرسون كنت بحرص على أنهم يكتبوا لي إهداء، ألف عليهم في الفصل يكتبوا لي علشان يفتكروني فيما بعد، كنت بقدس علاقة الصداقة جدا وما زلت"، تتحدث أماني "مجنونة الشلة" كما أطلق عليها زملاؤها..


بين الحين والآخر تذهب أماني للركن ذاته بالدولاب، تخرج الكراسات والأجندة المحملة برائحة الطفولة وأيام البراءة التي لا تعوض، وبعض الورود اللاتي جفت أَوراقهن وذبلت، الإسوارة الذهبية والخاتم البلاستيكي الوردي، تتفحص الخطوط الرديئة التي تليق بفتيات في عمر العاشرة فيما فوق: "كل واحدة من صاحباتي كانت لها صفة عندي بحب أطلقها عليها، كانت فيه دكتورة الشلة، وأبلة الناظرة الشلة، صاحبة النظريات العلمية البحتة، وأنا كنت المجنونة صاحبة الأفكار المطرقعة"، تتحدث أماني والسعادة تعلو وجهها..


ما زالت ذاكرة أماني تحتفظ ببعض المواقف التي كُتبت بها تلك الإهداءات، خاصة التي حملت توقيع صديقتها "منة": "منة تحديدا لسه فاكرة لها مواقف كثيرة، كانت عارفة إني بحب الإهداءات والأوتوجرافات، لما نكون قاعدين في الديسك الأخير كعادتنا دائما، وتشوفني متضايقة، تمسك الكشكول وتكتب لي أغنية أو كلمتين حلوين علشان ابتسم".
الجريدة الرسمية