رئيس التحرير
عصام كامل

جينات أبانا القاتل!


كثيرًا ما احتوت صفحات الحوادث على تفاصيل جرائم تشيب، وكثيرًا ما تصدرتها مانشيتات آذتنا نفسيًا وجعلتنا نترحم على الإنسانية المنشودة، وكثيرًا منا يكره تلك الصفحة التي تصنف ككتلة طاقة سلبية تحبط أكثر مناهضي الإحباط، أخبار الجريمة جميعها مؤذية نفسيًا، لكن الأذى ككل شيء له درجات، وجود المنطق في الجريمة يجعل أذاها النفسي على المتلقى أخف كثيرًا، وغيابه يجعلها أشد وطأة عليه وأكثر ترويعا، دخل على زوجته ووجدها تخونه مع عشيقها فقتلهما، هنا منطق الكرامة ووجع الخيانة..


سرق، نهب، نصب، اختلس، تربح، غش، ارتشى، تاجر في المخدرات، كونوا شبكة دعارة، هنا منطق الحاجة والنفس التي لا تشبع.. أخذ بالثأر فقتله ومثل بجثته، هنا منطق العادات والتقاليد والموروثات المتراكم عليها أكوام الصدأ.. قتل خطأ أو ما جرى مجرى الخطأ، هنا منطق الاستهتار واللامبالاة.. اغتصب بأي شكل من أشكال الاغتصاب هنا منطق الوحشية والشر الكامن في النفس التي ألهمها الله فجورها وتقواها.. وهكذا..

كله بيعدي وكله بيتنسى.. أما ما تأبى الذاكرة أن تسقطه أبدا هو جرم بشع يحدث ولا يوجد أثر للمنطق فيه، أرى فيه دربًا من دروب الجنون، أرى فيه الفزع وتوقف طويل الأمد لآلة الزمن.

اختفى مبلغ أربعمائة جنيه وبضع جنيهات ذهب من بيت أستاذ في كلية الطب واكتشف أن أولاده وراء هذا فأشبعهم ضربًا بسير مربوط في آخره مفك ونزل للصلاة في الجامع، وعاد ووجد أوسطهم جثة هامدة فحمله إلى مقلب زبالة بمساعدة أمه "الدكتورة أيضًا" وبلغ الشرطة وأخبرهم أنه وجد ابنه هكذا!

كم المتناقضات التي تحتوي عليها تفاصيل تلك الجريمة تثبت أن النفس البشرية هي أعقد شيء خلقه الله على وجه هذه الأرض البائسة التي كانت أول جريمة فيها هي أخً قتل أخيه وراح يوراي سوءته بإرشاد الغراب، فذهب القتيل وتبقى القاتل الذي جئنا جميعا من نسله، نعم جميعنا أبناء قاتل متهور، لكن منا من ورث ميول السلام من عمه القتيل ولسنا جميعا نحمل جينات هذا القاتل.

عذب أبناءه بسلك ومفك حتى تكومت كتل الدم تحت جلودهم في كل مكان، ثم نزل للصلاة ووقف أمام الله وكأن شيئأ لم يكن، عاد ووجد ابنه قتيلًا فلم يرق قلبه وحمله إلى النفايات، وكأنه ولا من صلبه ولم يتعب في تربيته أربعة عشر عاما هي كل عمره الذي انقضى على يديه، نسي أن هذا الكائن ولد وكبر أمام عينيه يوما بعد يوم وعاش معه سيل ذكريات من الطفولة للصِبا، قتل زرعه زرعها على مدار 14 عاما بسبب 400 جنيه!!

هذا الطبيب الذي أتى بتلك الجريمة المروعة الخالية تمامًا من المنطق هو وأمثاله ممن يقتلون لأتفه الأسباب أراهم امتداد أبانا القاتل على هذه الأرض، والقاسم المشترك بينهم هو تهور يعقبه ندم حيث لا ينفع الندم، الله المعين على صعوبة الحياة وهؤلاء فيها، الله المعين على عجائب النفس البشرية التي منذ بدء الخليقة حتى اللحظة ما زالت تأتي بما هو أكثر ترويعًا من كل ما أتت به سابقًا.
الجريدة الرسمية