رئيس التحرير
عصام كامل

حكاية قرار إزالة يُنهي مسيرة «ساعاتي الملك فاروق» وأقدم صانع مانيكان (صور)

فيتو

في شارع 26 يوليو بمنطقة "بولاق أبو العلا"، عقارات ومحال قديمة وحديثة، وزحام سيارات وأفواج من المارة، يتجددون كل دقيقة، يتوافدون على هذا الشارع الحيوي الذي كان يُدعى في الماضي "فؤاد الأول"، والذي كان حاله غير الحال، حيث كان الهدوء سمته، ولم يكن يعكر صفو هدوئه إلا صوت الترام.


ومن بين العقارات الشهيرة فيه على امتداد سنوات طويلة، منذ أن كان "فؤاد الأول"، وحتى أصبح "26 يوليو"، العقار رقم 54، الذي يحوي شقق سكنية عدة، ومحال تجارية، وورشة فنية، على وشك أن تودع ماضيها، وأن تضطر كارهة لتناسي حكايات طويلة عاشتها مع هذا المكان، بينما العقار الذي يضمهم مهدد بأن يُدك ويسوى بالأرض، كما يروى عدد من المنتظرين على أحر من الجمر لكلمة القدر الأخيرة، بشأن مصير ماضيهم ومستقبلهم المتعلقين بهذا العقار، ومن أبرز هؤلاء المنتظرين أصحاب محل "شركة س. هنهايات للساعات"، وعم حسني فارس، أشهر وأقدم صانع مانيكان في مصر.



كان من الطبيعي على المارة في شوارع المحروسة في العقود الأولى من القرن العشرين، أن تقع أعينهم على لافتات تحمل أسماء "خواجات"، وأن يلتفتوا يمينًا ويسارًا؛ ليجدوا ألقابا أجنبية تزين المحال، ولكن في الألفية الثالثة، ونظرًا لتغير طبيعة المجتمع المصري، وتبدل مكوناته، أصبح من الصعب أن نجد اسمًا غربيًا على المحال التجارية في قلب العاصمة، ولكن "هنهايات" كسر هذه القاعدة، فقد ظلت الشركة التي أنشئت منذ عام 1907 على يد الخواجة اليهودي "سالمون هنهايات"، ساعاتي الملك فؤاد والعائلة المالكة، محتفظة باسمها حتى بعد هجرة المُلاك اليهود إلى الخارج وانتقال الملكية عام 1956 إلى عائلة المصري أحمد سيد مصطفى، مدير الشركة، فقد حرصت العائلة المصرية التي ورثت الشركة والمحل على الاحتفاظ بالاسم والعلامة التجارية، التي اشتهر بها أقدم محل ساعات في مصر والعالم العربي، كما أن الشركة احتفظت أيضًا بطريقة العمل ذاتها التي كانت تعمل بها الشركة منذ انطلاقها.



والآن، في الحاضر، وبعدما تخطى عمر المحل قرنا من الزمان بسنوات، وتعاقب على إدارته ثلاثة أجيال، ظلت سمات المحل الخارجية أيضًا محتفظة برائحة وعبق الماضي، فالفاترينات وزجاجها السويسري والديكورات لم تتغير منذ إنشائها، حتى لون المحل يتم تجديده، ولكن بالحفاظ على اللون الذي اختاره أصحابه منذ البداية، اللون الزيتوني، وظلت التحف الأثرية التي تعود إلى عصور ماضية تزين جدرانه، بداية من منبه نومولاس ووتش، أغلى منبه في العالم، وصولًا إلى منبه الملك فاروق، ومنبه الأسرة الحاكمة، وساعة المندوب السامي البريطاني.


"دقات قلب المرء تخبره أن الحياة دقائق وثواني"، بيت لأمير الشعراء، كان مكتوبا على لافتة مكتب بالمحل، الذي يحكي عنه عصام سيد أحمد، من الجيل الثالث الذي ورث مع إخوته "هنهايات" عن الجد أحمد سيد مصطفى، مدير المحل، ونقيب الساعاتية، فيقول: "المحل في البداية كان متخصصا في بيع الساعات والمجوهرات والنظارات، وكان ليه زباينه من داخل مصر وخارجها، كان دايمًا بييجي هنا ناس كبار، زي الملك فاروق وأخواته الأميرات، ده غير السياسيين والبشوات والفنانين، ومن بينهم فؤاد سراج الدين باشا، ومصطفى النحاس باشا، والزعيم سعد زغلول، ومحمد القصبجي، وهدى شعراوى، والنبوي إسماعيل، وأم كلثوم، ورياض السنباطي، وزكي رستم، والفنانة تحية كاريوكا، وتوفيق الحكيم، وعمرو موسى، وحبيب العادلي، ومحمد عبد الحليم موسى، والدكتور مصطفى محمود، والكاتب أنيس منصور، وليلى طاهر، ورشوان توفيق، ولقاء سويدان، وغيرهم وغيرهم كتير من الشخصيات من جوه مصر وبراها، ولكن المحل حاليًا متخصص في صيانة وإصلاح الساعات".



يستكمل عصام حديثه عن المحل الذي ترك كل هواياته ومهنته في التدريس والصحافة، من أجل استكمال مسيرة والده وجده به: "كان نفسنا إننا نكمل الجيل الرابع هنا في هنهايات، بس للأسف دلوقتي المحل مهدد بالهدم، بالرغم من إنه كان ممكن يبقي نواة لمتحف للساعات"، فـ"هنهايات" على وشك أن يودع زبائنه الذين اعتادوا أن يأتوا إلى هذا الشارع الصاخب لزيارته، ويوضح عصام الأسباب: "العقار اللي فيه المحل صدر له قرار إزالة عام 1992، وكان بينص على إخلاء العقار 54 من السكان، مع عمل كشف الحصر اللازم ليهم، وهدم غرف السطح والدورين اللي تحتهم حتى سطح الدور الثاني فوق الأرضي، وتنكيس باقي العقار، وتم تجديد القرار في بدايات 2018 بالنص ذاته، وهو ما يعني أن العقار بأكمله لا يستحق الإزالة، من وجهة نظر عصام، وأن محل "هنهايات" خارج إطار التهديدات بالهدم".



ولكن عصام يؤكد أن الواقع مغاير: "إحنا اتفاجئنا بتهديدات إن العقار كله هيتهد، واتقطعت الميه والكهرباء عن العمارة، ومعمل الصيدلية اللي جنبنا اللي خارج إطار قرار الإزالة زينا، اتكسر بعد ما اترمى فوقيه "الرتش"، بقينا عايشين في رعب، عشان كده شيلت كل الصور التذكارية والتحف والنوادر اللي مش موجودة في أي حتة في العالم غير عندي، خفت المبنى يتهد فجأة والحاجات دي تتكسر"، ويؤكد أيضًا: "منطقة مثلث ماسبيرو بيتم تطويرها، وتم إزالة كتير من المنازل بس إحنا خارج حدود المثلث، وإحنا مش من العقارات اللى المفترض يتم إزالتها بسبب المترو".



ولكن محمد أيمن نائب محافظ القاهرة للمنطقة الشمالية، أكد في تصريحات إعلامية له منذ أيام، أنه لن يتم هدم العقارات التراثية، إلا إذا كانت حالتها غير صالحة للاستمرار، وأنه سيتم تشكيل لجنة لدراسة حالة كل عقار على حدة؛ لاتخاذ القرار المناسب لحالته، باستثناء العقار رقم 54 الذي سيتم هدمه، نظرا لأن أعمال حفر المترو تؤثر عليه وتعرضه للانهيار، وسيتم تعويض ساكنيه مثل مثلث ماسبيرو.



من جانبه تمنى عصام أن يتم الحفاظ على "هنهايات" حتى باعتباره متحفا للساعات، فهو ليس محلًا عاديًا، بل تاريخا طويلا، ارتبط به الكثيرون، "في ناس جت مخصوص من أسوان عشان تشوف المكان اتهد ولا لأ؛ لأن روحهم فيه، مرتبطين بيه من صغرهم، ده في مستشرق ألماني جه لينا عشان يعمل موضوع عن المحل، بيتفرج عندنا على دفتر زباين المحل اللي اتسجل فيه أبرز الزوار، طلع اسم جده في الدفتر".



ويؤمن عصام أيضًا بأن الشارع بأكمله يحمل طابعا معماريا مميزا، وأنه كان من الأفضل أن يتم إعادة "تنكيس" العقارات بدلًا من هدمها، وقال والحزن لا يفارق صوته: "بناشد رئيس الوزراء والجهات المعنية، إنهم يبصوا للشارع ده بنظرة تانية، وياريت لو يرمموا المحل، ويحافظوا عليه؛ لأنه تاريخ". وتأمل عصام في حزن جدران محله الخاوية من التذكارات والقطع الأثرية التي اعتادت أن تزينه، وتمتم قائلًا: "المحل كان فيه حاجة بجد حلوة".



عم حسني فارس
وأمام العقار رقم 54، كان الأسطى حسني فارس، أو "الفنان" كما يطلق عليه أهل حي بولاق أبو العلا، يجلس والحزن يكسو ملامح وجهه التي تاهت وسط التجاعيد التي رسمها الزمن، بدا الرجل الثمانيني وكأنه يرثي حاله على ضياع ورشة، شهدت لحظات انتصاراته ونجاحاته، وعاش بين جدرانها أجمل سنوات عمره، ورشة صناعة "المانيكان" اليدوي، الذي كان هو رائدها في مصر المحروسة، والتي تهددها معاول الهدم التي قد تطول العقار والشقق السكنية والمحال التي يضمها.



سار حسني بجسد نحيل نحو ورشته التي أصبحت خالية على عروشها، اللهم إلا من بقايا بعض المانيكانات التي تفحصها بعين حزينة، مسترجعًا ذكرياته معا، ومع هذه الورشة التي افتتحها في الستينيات، بعد أن قضى سنوات قبل الافتتاح في العمل في صناعة المانيكان اليدوي، بخامات بسيطة وخفيفة، استطاعت أن تحل محل المانيكانات الشمع ثقيلة الوزن في أشهر محال الخواجات الأجانب واليهود في العاصمة مثل شيكوريل، وصيدناوي، وهانو، وأركو، وشملا، وبنزايون، وعدس، وعمر أفندي، وريفولي، وبنتريمولي، وأصبح هو بفضلها رائد صناعة المانيكان في المحروسة.



يحكي حسني لـ"فيتو" عن ورشته التي عاش بين جدرانها عمرًا، فيقول: "ورشتي دي كانت فاتحة خير عليا، صنعت فيها شغل كتير، وكانت في الأول كبيرة، وفيها عمال كتير، وفضلت طول سنين عمري فيها"، وذكر "الفنان" حكاية له من الماضي مع الفنانة رجاء الجداوي، التي كانت تعمل في عالم الأزياء، والتي كانت تعتمد على أنامله في صناعة مانيكانات لها، حتى أن علاقتهما وصلت إلى درجة من القوة التي دفعتها لكي تطلق عليه اسم "حسني الجداوي".



وظل نشاط ورشة الأسطى حسني على حاله في ازدهار، حتى بعد خفوت "موضة" المانيكان الجبس، والاعتماد بصورة أساسية على البلاستيك أو الفايبر جلاس في صناعة المانيكان على مستوى العالم، في منتصف السبعينات، حيث تمكن من مجاراة التطور، واستمرت مسيرة إبداعه داخل جدران الورشة في بولاق أبو العلا، ووصلت شهرته إلى مستوى العالمية، وظلت محال الملابس الجاهزة في مصر والوطن العربي تثق في أنامله، فقد كان دقيقًا حريصًا على إبراز التفاصيل، وكان يحرص على تجميل المانيكان وتلوينه.



ونظرًا لاتساع نطاق شهرته، وصل صيته إلى عالم الفن، وعن علاقته بكثير من الفنانين، يحكي حسني: "اترشحت لعمل تماثيل في فيلم اليرموك مع صلاح أبو سيف، وعملت تماثيل لفوازير نيللي "الدنيا لعبة"، واشتغلت مع "رحمي" في بوجي وطمطم، ده غير إنى شاركت النحات مصطفى نجيب في عمل تمثال لأحمد عرابي في الزقازيق".



كانت الورشة في الفترة الأخيرة تعتمد بشكل أساسي على صيانة وإصلاح المانيكانات، وكان حسنى فارس يتعامل مع المولات الشهيرة، وذلك بعدما غزت المانيكانات الصيني السوق، وأثرت على شعبية المانيكان اليدوي، وحجم الإقبال عليها، واحتلت هي الصدارة، في الأسعار والمبيعات.



ظل الأسطى حسني يعمل في ورشته بصورة طبيعية، لم تكف أنامله عن العمل، حتى وبالرغم من أن مسار مهنته قد تغير، وحتى بعد تقدمه في العمر، إلى أن وصلت إلى مسامعه أنباء اقتراب موعد هدم العقار، التي هزت نفسه وجعلته يشعر بالعجز، ولم يستطع أن يفعل شيئا حيال الأمر.



ولكنه تحرك حينما وجد الأحجار تطل من نافذة ورشته، جراء تهدم أجزاء من العقار، فخشى على المانيكانات التي شكلها بيديه، وبذل فيها جهدًا، فحمل ما تمكن من حمله بعيدًا عن ورشته، واحتفظ بما استطاع حفظه، وترك ما لم يجد له متسعًا، وباع إلى جامعي الروبابيكيا بعض المواد الخام التي كان يعتمد عليها في عمله مهما غلا ثمنها.



بعدما أخلى حسني ورشته، أصبح يأتي إلى العقار الآيل للهدم، يجلس بالقرب من الورشة الفارغة ليودعها، ويودع معها سنوات من العمل والحياة والشهرة، وأصدقاء عمر من أهل المنطقة، داعيًا الله أن تحدث معجزة تمنع كابوس الهدم من التحقق، وفى قلبه أمل أن تأتى الرياح يومًا بما تشتهى السفن.

الجريدة الرسمية