القيم الإنسانية.. رؤية نقدية

في كل عصر من العصور نجد صراعا في إشكالية القيم الواقعة بين الحركة والجمود؛ فنجد على سبيل المثال في عصر ما جانبا يدافع بحرارة وإخلاص عن قيم تجاوزها ركب الزمان، وهى في حقيقة الأمر اعتقاد لهؤلاء أكثر منه قيم، ويتوهمون أن هذه القيم أزلية مُخلدة وتقوم حرب شرسة على كل من يدعو إلى التجديد أو التغيير فيها أو الإصلاح، والدعوة إلى التخلي عنها وإحلال قيم أكثر معاصرة وتتضمن فكرا إصلاحيا فتلك في رأى الجانب المتشدد دليل على الانهيار.

وفى الواقع إذا نظرنا إلى عصرنا هذا نجد تحولا رهيبا في تاريخ البشرية لأن سرعته فاقت كل التوقعات بل والخبرات، وصحيح عزيزي القارئ أن كل عصر يظن أنه حاسم وصحيح وأن المفكرين في كل زمان كانوا يعتقدون أنهم يقفون في مفترق الطرق ويتصورون الفترة التي يعيشون فيها على أنها أعظم أهمية بالنسبة إلى مصير البشر، وهذا الأمر طبيعي في العقل البشرى وهناك نماذج مشهورة في تاريخ العالم دالة على ذلك سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الديني أو الثقافي والاجتماعي، هذه النماذج كانت ترى أنها محور التاريخ كله.

وإذا كنت أقول إن هذا العصر الذي نعيش فيه هو عصر السرعة التي فاقت كل التوقعات، فقد يأتي عصر آخر في المستقبل يفوق ما نعيشه؛ وهذا هو قانون حتمية التغيير والتطور والتجديد والذي نحكم عليه من خلال الموضوعية التي لا تقبل الخلاف أو الجدل.

التجديد والتغيير هو قانون حاكم عبر التاريخ بطبيعة الأشياء حتى الوعى التاريخي والعقل الجمعي بمجريات الأشياء يخضع لقانون ومبدأ التغيير؛ يقول الفيلسوف هيرقليطس "أنت لا تستطيع أن تنزل في نفس النهر مرتين لأن مياهه تتغير باستمرار"، والتجديد والتغيير نجدهما نقطة الانطلاق في فلسفة هيجل، وفى الحقيقة أرى أن في سياق هذا المشهد وفى سياق أن العصر الذي نعيش فيه يشهد تحول للعلاقات البشرية والدولية سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو على مستوى العلاقات بين الأديان وبين الطوائف يجب أن تتحول العلاقات من علاقات استغلال إلى علاقات مشاركة وتضامن ومساواة وسلام.

إن العصر الذي نعيشه بظروفه وآلياته وتحدياته هو عصر حاسم يجب أن نقبل بالتغيير في ظل الاحتفاظ بالهوية الأصيلة؛ فالنظم الاقتصادية تتغير على مستوى العالم وبالتالي انعكس ذلك على مصر بل تغيرت وتبدّلت العلاقات الدولية والسياسية؛ وهذا أمر طبيعي وهذه هي حتمية التغيير، والأهم في حتمية التغيير رؤية من يغير ومن يجدد ومن يتطلع إلى الأفضل إلى المجموع وليس الخاصة هنا تكمن الإشكالية.

وهناك إشكالية أخرى هامة في قضية التجديد ألا وهي الصراع بين القيم المتطلعة إلى الوراء والقيم المتطلعة إلى الأمام، ويدور بين هذه وتلك صراع فكرى عنيف تزداد حدته بقدر رغبة القديم في التمسك بآخر معاقله والجديد في تأكيد ذاته وجدارته وبين هذا وذاك تخرج علينا فئة جاهلة مستفيدة ومرتزقة من هذا الصراع تتاجر بالسلبيات الحتمية نتيجة التجديد، وتحارب الإيجابيات الفاعلة من أثر التجديد..

هذه الفئة في حقيقة الأمر هي المعطلة لأى تطور وأي إصلاح، ونجد هذه الفئة على كل المستويات نجدها المدافعة عن حماية الإيمان وهى أبعد ما تكون عن معرفة القيم، ونجدها مدافعة عن الوطن، وهى في حقيقة الأمر من براثن الطابور الخامس والمرتزقة، بل نجد هذه الفئة مدافعة عن القيم وهى في الحقيقة مكانها الطبيعي خلف أسوار السجن لما تفعله من تفتيت للتماسك القيمي.

وفى الحقيقة أيضا إذا رجعت بين إشكالية الصراع بين القديم والحديث نجد أن الصراع لا يتخذ شكلا فيه تعارض بين قيم رجعية وقيم تقدمية على الدوام؛ وإنما يتخذ شكل اختلاف في تشكيل قيم واحدة، فقد تظل نفس القيم باقية ولكنها تأخذ دلالات جديدة مع أنصار التجديد في حين يتمسك أنصار القيم التقليدية بدلالتها؛ فيزداد الصراع بينهما لأن كلا منهما ينادى بنفس القيم ولكن بشكل مختلف، بل ينشأ صراع بين القيم الفردية والقيم المجتمعية ولكن اللحظة التاريخية تفرض نفسها ولغة العصر تفرض مفرداتها، والتقدم التكنولوجي الحادث وتأثير الميديا بكل أنواعها تفرض وجهتها..

والتغير والتجديد أيضا يفرض ذاته بقوة هائلة. والإشكالية تكمن في جوهر من يقوم بالتغيير والتجديد ومدى رؤيته التي يجب أن تكون لصالح المجموع وليس لصالح أفراد أو مجموعات بعينها، ونتذكر دائما المقولة الفلسفية "أنت لا تستطيع أن تنزل مياه النهر مرتين لأنها تتجدد باستمرار".