أفلحت الحكومة إن صدقت
لكم من السعادة عشتها عندما قرأت خبرا يبشر بعودة مصر لريادة صناعة الغزل والنسيج في العالم، وهو الأمر الذي طالما نادينا به وطالبنا الدولة بتبنيه، وأخيرا علمنا أن غرفة الصناعات النسيجية باتحاد الصناعات تعكف حاليا على الانتهاء من إعداد إستراتيجية تطوير صناعة الغزل والنسيج ضمن إستراتيجية الدولة 2030، بهدف إعادة مصر لعرش صناعة الغزل والنسيج مرة أخرى، ويتم ذلك بالتعاون مع مختلف الوزارات والجهات المعنية ومنها وزارات الصناعة والتجارة، والمالية، والتخطيط، والزراعة والري ومنظمة «اليونيدو»، والشركة القابضة للغزل والنسيج، والمركز القومي للبحوث.
وبالطبع تمثيل تلك الجهات في هذا المشروع له الأهمية الكبرى، وكلها جهات فاعلة في تلك العودة المرتقبة لعرش صناعة الغزل والنسيج بعدما سبقتنا دول لا يوجد لديها حتى القطن الخام، وإن وجد فليس بجودة القطن المصري لكن لديها الإرادة والعزيمة على خدمة أوطانها وأبنائها، ونحن تَنازلنا طواعية عن عرش القطن في العالم لأسباب كلها تدور في إطار الفساد والمفسدين والمرتشين، فبعدما كانت مصر رائدة القطن طويل التيلة، حيث كانت تنتج في الماضي 15 مليون قنطار من القطن طويل التيلة، أصبحت الآن تنتج 2 مليون قنطار، وأصبحت البذرة ذات خليط، وكان القطن في الماضي يدر دخلا جيدا للفلاحين، وصرنا نستورد القطن قصير التيلة من باكستان.
وكان القطن قديما في مصر يسمى "ذهب مصر الأبيض"، إذ إن مصر كانت توفر سدس إنتاج العالم من القطن طويل التيلة (عالي الجودة)، وكانت الدولة تقوم بزراعة القطن بمساحات كبيرة من القطن طويل التيلة فائق النعومة، وهو أفضل نوع من الأقطان على مستوى العالم، وكانت تقوم بتصنيعه داخليا في مصانع الغزل والنسيج المصرية ومن ثم يتم تصديره.
فصارت بذرة زراعة القطن "مغشوشة" ويتم استيرادها أحيانا من إيطاليا، مما يجعل محصول القطن أحيانا لا تتفتح زهرته فيبيعه الفلاحون أخضر كطعام للمواشي، ومن أهم المشكلات التي تواجه القطن طويل التيلة في مصر وأدت إلى انهياره هي نقصان المساحة المزروعة به، فبعدما كانت المساحة المحددة للقطن مليوني فدان انخفضت إلى 247 ألف فدان، وصارت صناعة المنسوجات القائمة في مصر تعتمد على القطن قصير التيلة، وأصبح هناك دول كثيرة قامت بزراعة القطن المصري بعدما طورت خصائصه.
ونجد أن صناعة المنسوجات لو تم إصلاحها فستساعد في حل مشكلة البطالة في مصر، إذ يقدر عدد العاملين بالقطاع بشكل مباشر وغير مباشر بأكثر من ثلاثة ملايين عامل يمثلون 30% من إجمالي قوة العمل، ولا بد من إعادة التفكير في إدارتها، وهناك مجموعة من الأسباب المتداخلة أدت إلى تراجع القطن المصري عالميا، كما أن هناك متغيرات عالمية لم نُواكبها داخليا، فصناعة النسيج تطورت خلال الـ20 عاما الماضية..
وتغير شكل السوق العالمية، وظهرت قوى أخرى فعلى سبيل المثال، تزايد الطلب على القطن طويل التيلة والأقمشة الناعمة من الخيوط التي يتم تصنيعها في الصين، لكن للأسف لم نواكب التغير من حيث الأصناف والمصانع، وهذه التغيرات كانت تصب في غير صالح القطن المصري، واحتلت الهند المركز الأول من حيث حجم صادرات القطن إليها، حيث بلغت الكمية المصدر للهند من القطن خلال الربع الأخير من عام 2017، 35.785 ألف قنطار بقيمة تجاوزت 98.9 مليون جنيه 41.5% من إجمالي الكمية المصدرة خلال الفترة من (يونيو - أغسطس) 2017، تلاها الصين، بصادرات بلغت قيمتها 31.5 مليون جنيه وبكمية 9525 قنطارا متريا، واحتلت دولة باكستان المركز الثالث من بين 15 دولة مستوردة للقطن المصري، حيث بلغت قيمة الصادرات إليها 22.1 مليون جنيه بكمية وصلت إلى 7185 قنطارا.
والمزارع المصري له أسباب في عدم زراعة القطن منها انخفاض الأسعار، حيث لم يعد القطن مربحا بالنسبة له، وأصبح الأرز من 10 سنوات هو المنتج المربح بالنسبة للفلاح المصري، فكل هذه الأسباب أسهمت في قلة المساحة المنزرعة، وتدهور نتيجة سياسة داخلية خاطئة، حيث فقد القطن المصري هويته، والسبيل الوحيد لعودة القطن المصري إلى سابق عصره هو أن تواكب الدولة التطورات التكنولوجية العالمية في هذا المجال، وتولى صناعة القطن الاهتمام اللازم وتحديد سعر مناسب للقنطار، وإمداد الفلاح المصري بالأسمدة والمبيدات لتحسين المحصول وتشجيع الفلاحين على العودة إلى زراعة القطن من جديد.
وتعتمد الإستراتيجية - التي من المقرر الانتهاء منها نهاية الشهر الحالي - على التوسع في زراعة القطن متوسط التيلة بالصعيد لتغطية احتياجات المصانع المحلية التي تم تغيير ماكينات الغزل بها إلى ماكينات حديثة تعتمد على القطن قصير التيلة، أما القطن فائق وطويل التيلة - الذي تجود زراعته في منطقة الدلتا - فسيتم إدخال صناعات أولية علية لزيادة القيمة المضافة له بنسبة تصل إلى 35% قبل تصديره خاما لتحقيق عائد أعلى من تصديره في ظل عدم إمكانية شراء ماكينات جديدة تحتاج إلى استثمارات ضخمة جدا.
كما تعتمد الإستراتيجية على تغيير مناهج التعليم الفني بالمدارس الفنية لتلبية احتياجات المصانع، خاصة أن الكثير من المدارس الفنية تدفع بخريجين غير مدربين على متطلبات سوق العمل، والكثير من العمال المهرة يتسربون للالتحاق بمهن أخرى بعيدة عن تخصصهم، وربط خريجي المدارس بسوق العمل والمصانع.
كما تعتمد الإستراتيجية على تبني المصانع جزءا من تكلفة البحث العلمي التي تتم داخل الجامعات ومراكز البحوث، وإنشاء كليات لمنح شهادة جامعية بمسمى «التكنولوجيا المتقدمة»، ولا يزال القطن المصري حتى الآن هو أعلى أنواع القطن في العالم، ولا يوجد قطن بنفس جودته، وخاصة القطن فائق وطويل التيلة الذي يتفوق على قطن «بيما» الأمريكي، ونظرا لارتفاع أسعار الماكينات وصعوبة تغييرها في الوقت الراهن فسيتم تحقيق أقصى استفادة منه قبل تصديره مادة خاما.
وهناك دولا مثل سويسرا تستورد القطن فائق الطول، وتنتج منه ملابس فاخرة يباع القميص الواحد منها بسعر من 800 إلى 1200 يورو، وتحت عبارة «مصنوع من القطن المصري»، وهو الأمر الذي يؤكد أن القطن المصري ما زال يحتل مكانة عالية عالميا. فهل يتم تنفيذ هذه الإستراتيجية بالفعل وتكون الدولة جادة وحريصة عليها أم أنها ستكون مثل أمثالها التي طالما سمعنا عنها ولم تخرج لحيز التنفيذ أبدا ؟!