غابت الكرة.. وحضرت السياسة!
كان منهج المصريين في متابعة مباريات كأس العالم كاشفا لأزمتهم مع الأوضاع السياسية في مصر، منذ عهد مبارك وحتى الآن، بدا الأمر وكأن المصريون ينتظرون فرحة غابت وطال غيابها، نعم شبع المصريون حزنا وهما، وجاءت مشاركة مصر في كأس العالم مثل طوق نجاة، تعلقوا به، ومنوا أنفسهم بليال سعيدة، يغنون فيها ويرقصون، يتمايلون على أنغام الموسيقي الصاخبة، مثل مريض في جلسة زار، ضاق بالأرواح الشريرة التي تسكن جسده!
كنت أري وأسمع بعض البسطاء، خاصة من كبار السن، يسخرون من حالة الهوس التي أصابت المصريين، من قبل أن تبدأ المباريات، على اعتبار أن لدينا من الهموم ما يكفينا، حيث يعتبر هؤلاء أن كرة القدم ترف لا مجال له، بالنسبة لنا – كشعب – يحتار غالبية أبناؤه في تدبير مطالب حياتهم الأساسية، والحقيقة أننا جميعا في مركب واحد، الفرق فقط أن هناك من يفضل الحياة وجها لوجه مع أزماته، على مدار اليوم، بينما يحاول آخرون اقتناص أي فرصة للفرحة، أو للهروب !
وجاءت أزمة مشاركة وفد من الفنانين في تشجيع المنتخب المصري، لتكشف حالة الاستقطاب الحادة التي توارت قليلا وراء شعور عام بضرورة مساندة الفريق الوطني، وهو الشعور الذي لم يفرق بين أطياف المصريين على اختلافها، أغنياء وفقراء، مؤيدين ومعارضين، راضين يتسلحون بالأمل، ومحبطين لا يرون من المستقبل سوي نفق مظلم لا نهاية له!
انهزم الفريق المصري هزيمة مخجلة، وانفجر الجميع في حالة سخط عارمة وغريبة، وجه المصريون – عبر السوشيال ميديا – قذائف الهجوم على الفنانين الذين سافروا إلى روسيا للتشجيع، واتهموا المسئولين عن كرة القدم بالفساد، واختلطت الاتهامات، بحيث لم نعد نفرق بين الحقائق والأكاذيب، وبين من ينتقد حرصا على الفريق الوطني، ومن يكتب لمجرد التنفيس عن غضبه، وإحساسه بالفقر، والتهميش، والقهر.
ورد بعض الفنانين بتصريحات اتهم بعضها المصريين بالحقد، والغل، وهي تصريحات رغم وقاحتها، إلا أنها تستند إلى ظل من الواقع، نعم شعر الفقراء بالحقد على من سافروا للتشجيع، ليس لأن لهؤلاء يدا في الهزيمة بالطبع، بل لأنهم حصلوا على امتياز من الشركة الراعية دون وجه حق، وتلك الشركة التي أنفقت الملايين لسفر الفنانين، محسوبة على الدولة، والدولة هي التي رفعت الأسعار في توقيت متزامن مع الاستعداد لكأس العالم، وكان لإحدي الفنانات المشاركات في رحلة التشجيع رأي صادم في قرارات رفع الأسعار، حيث انتشر فيديو تقول فيه "الفقير اللي معهوش يركب عربية يمشي"!
تابعنا بالطبع تفاصيل تلك الأزمة، التي استمرت لأسابيع، جري خلالها تبادل الاتهامات والشتائم، واصل بعض الفنانين تعاليهم على الجماهير التي صنعت نجوميتهم، ومنحتهم القصور والفيلات وأرصدة البنوك، ومن جانبها كشفت قطاعات كبيرة من المصريين، عن إحساسها بالحقد الشديد على فنانين طالما صفقوا لهم على المسارح، وتزاحموا على شبابيك التذاكر لمشاهدة أفلامهم، ومنبع هذه الإحساس، لا علاقة له بالفن كفن، ولكنه يستند إلى منطق طبقي بحت، يعتبر الفنانين من صفوة المجتمع، التي تتمتع بالثراء والرفاهية، وفي الوقت ذاته، تتهجم على الفقراء، وتصفق للحكومات التي تقهرهم وتجلد ظهورهم بالغلاء، وانتهت أزمة الفنانين، وعاد منتخبنا الوطني مهزوما، ثم ما لبث المصريون أن اجتمعوا على حلم جديد، حلم فوز منتخب كرواتيا بكأس العالم !
وقد فسر الكاتب الصحفي د.ياسر أيوب تشجيع غالبية المصريين لمنتخب كرواتيا، بأنه حلم مصري بنجاح فريق يشبهنا من جانبين، الأول هو فقر الإمكانيات، والثاني أن كرة القدم في كرواتيا ظلت لسنوات طويلة، ضحية للفساد، والوجوه القبيحة التي تسيطر على شئونها، وتعتبرها وسيلة لتحقيق مصالح سياسية، أو مكاسب مالية، حتى تغيرت تلك الأوضاع، وتمكن الفريق من تحقيق إنجاز وصوله إلى نهائي كأس العالم، في مواجهة امبراطوريات كبري، مثل إنجلترا وفرنسا..
ورغم وجاهة الطرح الذي قدمه الدكتور ياسر أيوب، إلا أنه ربما يخص رجلا متخصصا مثله، لكنه لا ينطبق على الغالبية العظمي من المصريين، أصحاب الثقافة المحدودة، والذين لا يعرفون بالطبع تاريخ كرة القدم في كرواتيا، بل ربما لا يعرفون مكان تلك الدولة على الخريطة.
كما أن تفسير التعاطف المصري الجارف مع فريق كرواتيا بأنه نابع من الإعجاب بجمال وأناقة رئيسة الدولة، تفسير لا يتناسب مع حجم الحالة، وهو لا يعبر سوي عن خفة الظل المصرية، والحقيقة – فيما أعتقد – أن المصريون رأوا في رئيسة كرواتيا نموذجا للحاكم الوطني البسيط، الذي لا يتعالي على شعبه، رأوها في غرفة الملابس مع لاعبي الفريق تشجعهم وتشد من أزرهم، وشاهدوها وهي تضحي بمكانها في المقصورة الرئيسية بحكم منصبها، لتجلس بين الجماهير، لكي تتمكن من ارتداء فانلة فريق بلادها الوطني، أحب المصريون جمال وأناقة تلك السيدة، هذا صحيح، لكنهم شجعوا فريق كرواتيا إكراما لحسها الوطني، وبساطتها، وحبها لشعبها، ووطنها..
غابت الكرة.. وحضرت السياسة !