رئيس التحرير
عصام كامل

ساويرس وجمهورية العطش


اقتربت الطائرة من الأجواء المصرية، وبحنان هبط الطيار إلى أقرب مساحة من الأرض.. ها هى القاهرة، النادرة، الصاحية لا تزال تغلف أجواءها سحابة من الدخان الكثيف.. خليط بين سحاب ماء وسحب دخان، ومع كل هذا تطل بوجهها الصبوح، تداعب المارة فى الشوارع.. تبدو قلعة صلاح الدين على مقربة من نيل وأهرامات تناطح السحاب كبرياءً وإباءً وتاريخًا وجغرافيةً.. بعض بيوت بسيطة متراصة، متعانقة، فى منطقة شعبية تجاورها فيلات الصفوة فى وفاق مدهش.


عانقت عجلات الطائرة أرض مطار القاهرة وقلب نجيب ساويرس يرقص طربًا، ويقفز هنا وهناك فى جمل مفيدة، مثل عبارات صلاح جاهين فى رباعياته الخالدة، ولسان حاله يردد «يا قاتلتى» والأسرة من حوله تعيش حالة التخمين، وتطل من رأسه خيالات بين اليقظة والصحو، تتناقل صور الناس على مخيلته فى لحظة ترقب مكثفة.

بين ممرات المطار كانت الأسرة تطالع وجوه المستقبلين بأزياء رسمية، وأخرى على عفويتها تبدو مصرية أكثر، وببساطة أهل مصر قالوا له: حمد الله على السلامة.. نورت مصر.. تهلل وجه نجيب ومن معه من أسرة لا تعلم حتى الآن ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ وصار السؤال الصغير كبيرا: هل يعاقب المرء على عشقه لوطنه؟

وربما هربًا من أسئلة لا يعرفون إجاباتها قررت الأسرة الانتقال للاحتفال بعيد القيامة المجيد فى منطقة أكثر هدوءًا..
الجونة هذا المشروع المصرى الذى خطط بعناية عاشق، استرخت الأسرة من وعثاء سفر لا يقل ضراوة عن أسفار السابقين، بين تلال وقمم الجبال فى زمن الإبل، أيام أن كان العطش هو سيد الموقف.

هل عادت جمهورية العطش تسكن ربوع الوطن الذى لم يعرف العطش يوما إلا صوما وتقربا إلى الله؟ هل أرادت جمهورية العطش تطبيق دستور ندرة الماء على آل ساويرس؟ هل أرادوا تطبيق قواعدهم على الحب ؟!!
.. ربما

وجمهورية العطش لا تعانى ندرة فى الماء، وإنما تغرق فيما هو أبعد من ذلك.. فى جمهورية العطش يمارس الإرهاب بديلًا عن الوئام، وتمارس الكراهية مرادفًا للحب، وتغدو صيحات البغض شعرا، وهتافات الإقصاء قصيدة نثرية، وتردد وصلات الحقد عقب كل صلاة، ويصير ماء الأنهار نارًا ولون الأشجار صفارًا.

وما بين الرحيل والعودة أيام من الهواجس والمخاوف والترحال والقلق، وبين مدن ترحب بزائريها عاشت الأسرة أياما من الطرد والمطاردة، وكأنهم الأقرب إلى حفظ أبيات نزار قبانى التى يقول فيها:

آه ياحبيبتى
ما هذا الوطن الذى يتعامل مع الحب ..
كشرطى سير؟
فيعتبر الوردة مؤامرة على النظام
ويعتبر القصيدة منشورًا سريًا ضده
ما هو هذا الوطن المرسوم على شكل جرادة صفراء
تزحف على بطنها من المحيط إلى الخليج
من الخليج إلى المحيط
والذى يتكلم فى النهار كقديس
ويدوخ فى الليل على سرة امرأة
ما هو هذا الوطن ؟..
الذى ألغى مادة الحب من مناهجه المدرسية
وألغى فن الشعر
وألغى النساء
ما هو هذا الوطن؟
الذى يمارس العدوان على كل غمامة ماطرة
ويفتح لكل نهد ملفًا سريًا
وينظم مع كل وردة محضر تحقيق!!
ياحبيبتى
ماذا نفعل فى هذا الوطن؟
الذى يخاف أن يرى جسده فى المرآة حتى لا يشتهيه
ويخاف أن يسمع صوت امرأة فى التليفون
حتى لا ينقض وضوءه

عاد نجيب وأسرته إلى ديارهم وبين أهليهم أدركوا أن الوطن الذى صنع فجرا للبشرية لا يزال ينبض.. وجدوا ذلك فى المطار وفى الغردقة وفى أجراس الهواتف التى تطاردهم حبا ونبضا للترحاب بهم ولتأكيد أن مصر الوطن لن تكون فى يوم من الأيام إمارة خوف أو جمهورية عطش!!
الجريدة الرسمية