رئيس التحرير
عصام كامل

صورة و«نيجاتيف» وكام بوستر.. آخر ما تبقى من سينما فاتن حمامة (صور)

فيتو

في 1 شارع الروضة بمنطقة المنيل بمصر القديمة، وفي الجهة المقابلة لنهر النيل، يسكن المبنى الذي أثير حوله الجدل- في الآونة الأخيرة - صامتًا كعادته منذ ثلاث سنوات، خاليًا اللهم إلا من حارسه، فاقدًا أي ملمح خارجي يكشف عن هويته التي كان يتميز بها على امتداد سنوات طوال، بعدما فُرغ من كل علامة مميزة له من الخارج والداخل تحت وطأة أعمال الهدم.


واحتل ترخيص هدمه رقم 10 لسنة 2018 واجهته بدلًا من أفيشات الأفلام التي اعتادت أن تزين هذه الواجهة على امتداد عقود طويلة، وعوضًا عن اسمه الذي اشتهر به منذ عام 1984، "سينما فاتن حمامة"، ولم يتبق من هذا المبنى سوى بعض البوسترات وبقايا شرائط أفلام بُعثرت وسط الأتربة والأحجار، وذكريات في قلوب أهل حي المنيل يصعب محوها أو هدمها.


لم يكن قرار هدم سينما فاتن حمامة سهلًا على كثير من أهل حي المنيل، فهي شكلت كثيرا من ذكرياتهم، وارتبط بها المكان، خاصة بعدما حملت اسم سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، فقد كانت هذه السينما حينما أنشئت في خمسينيات القرن الماضي لم تحمل اسم الفنانة الراحلة، بل حملت اسم "ربع لبة" ثم "ميراندا"، لكن في منتصف الثمانينيات خضعت لأعمال التجديد، ليُعاد افتتاحها في 29 ديسمبر 1984 في عهد وزير الثقافة- حينها- عبد الحميد رضوان، وعادت في حُلة جديدة، وباسم الراحلة فاتن حمامة، لتكون أول دار عرض سينمائي قطاع عام من الدرجة الأولى يحمل اسم أحد نجوم الفن، تقديرًا لعطاء هذه الفنانة طوال مسيرتها الفنية الطويلة المليئة بالنجاح.


ظلت سينما فاتن حمامة وجهة مفضلة لسكان المنيل لسنوات وسنوات، وظلت منبرًا ثقافيًا وفنيًا، وعرضت على شاشتها كثير من الأفلام، لكن في 31 يناير عام 2015، بعد أيام من رحيل سيدة الشاشة العربية أغلقت السينما بعد انتهاء فترة إيجار الشركة العربية للإنتاج والتوزيع السينمائي لها، فرحل عنها روادها، وانطفأت أنوارها وأوصدت أبوابها وعرضت للبيع.


خلال سنوات الإغلاق الثلاث ضرب الإهمال سينما "فاتن حمامة"، فتحولت إلى كيان مهجور لا ينظر إليه أحد بنظرة اهتمام، وتحولت إلى مخزن، وجراج للدراجات البخارية، وأصبح مدخلها الذي كان يعج بالجمهور إلى "غِية" حمام، وظلت على حالها حتى فوجئ الجميع منذ أيام أنها تتعرض للهدم، وذلك بترخيص رسمي، وأنها على وشك أن تصبح ذكرى من الماضي، خاصة أنها تابعة لملكية خاصة، ومبناها ليس أثريًا أو حتى تراثيًا وليس له قيمة معمارية أو عمرانية، وفقًا للجنة الدائمة لحصر المنشآت، ومع بدء أعمال الهدم سيطر الحزن على الأهالي الذين لم يجدوا عزاء في توديع هذا الكيان إلا في الحكايات والذكريات.


في العقار المجاور لسينما فاتن حمامة كان الخمسيني ألبير لبيب غبريال، يعيش منذ ميلاده، وتربطه كغيره من سكان المنيل ذكريات وحكايات مع هذه السينما التي رسم معول الهدم مصيرها، وطمس ملامحها، وألصق باسمها فعل "كان"، وعنها يحكي ألبير: "أنا كنت بدخل السينما دي زمان بـ3 تعريفة وبعدين بقت 5 تعريفة.. كانت سينما درجة تالتة عشان كده كان سعرها على قد الإيد.. وكانت تذكرتها بتبقي هدية ليا من والدي لما ببقى شاطر في المدرسة وأنجح".


وعن السينما من الداخل وما جعلها لا تقارن بدور السينما الأخرى التي كانت موجودة في المنيل يحكي ألبير لـ"فيتو": "كانت سينما مميزة.. صيفي وشتوي.. وكان سقفها بيتفتح وبيتقفل ودي كانت حاجة جديدة خالص ما كانتش موجودة في أي سينما من السينمات اللي كانت موجودة في المنيل زمان"، وبدت أمارات الحزن في عيون ألبير حينما تذكر أن كل السينمات التي كانت تزين حي المنيل كان مصيرها جميعًا واحدًا وهو الغلق ولم يتبق في المنطقة بأكملها- على حد قوله- سوى سينما وحيدة وهي سينما جالكسي، أما السينمات الأخرى التي اعتاد السكان ارتيادها كسينما الجزيرة والروضة، حتى فاتن حمامة أصبحت في خبر كان، ومنها ما تحول إلى برج سكني فخم محيي أثر وجودها نهائيًا.


لم تكن سينما فاتن حمامة فقط بالنسبة لألبير مصدر ترفيه وسعادة بالنسبة له ولأسرته، لكنها كانت في نظره أيضًا علامة مميزة لمنطقة المنيل، وتساءل: "كان فين المسئولين لما صاحب العقار حصل على قرار الهدم؟"، واستكمل مستنكرًا: "بعد ما اتهدت الناس افتكرت إن كان في هنا سينما؟.. ما كانش تصريح الهدم صدر من الأول".


وفي العقار ذاته الذي يسكن فيه ألبير كان يقطن رامز سليمان ذو الـ47 عاما، الذي عاش مع سينما "فاتن حمامة" حكايات، "أنا بدخل سينما فاتن حمامة من وأنا طفل صغير ووقت ما كنت بدخلها كانت التذكرة بربع جنيه، وفي ذكريات كتير عيشتها معاها، ومر الزمن لحد ما اتفاجئت أنها اتقفلت ودلوقتي كمان بتتهد".


ويتذكر رامز أنها لم تكن مجرد دار عرض أفلام بالنسبة له، لكنها كانت متنفسًا ومركزًا ثقافيًا لأهل المنيل أجمعين ووجهة للفنانين، فيتذكر رامز أنه قد حضر في هذه السينما عددًا من المهرجانات، بحضور عدد من الفنانين، من بينهم ليلى علوي وعمرو دياب.


"السينما دي مكان ثقافي وكان لها أهمية كبيرة لأننا بنتعلم كتير من الأفلام، ده غير أن ليها ذكريات مع شعب المنيل كله ومصر القديمة والجيزة والناس كانت بتجيلها من كل حتة"، قال رامز والحزن باديًا على ملامحه، ولم يستطع إخفاء رفضه لهدم السينما على الرغم من أنه على علم تام أنها ملكية خاصة وليست ملكا الدولة ولا تُعتبر تراثا، وأكد أنه كان يفضل أن يقوم المشتري الجديد للعقار بإنشاء سينما جديدة عوضًا عن القديمة، بدلًا من المول الذي يُقال إنه سيحل محل "فاتن حمامة".


وفي الجهة المقابلة لسينما فاتن حمامة على شارع الروضة، كان هناك محل صغير يحمل أيضًا اسم "فاتن"، يملكه "عم أشرف الترزي" الذي يسكن في المنطقة منذ زمن طويل، وكان شاهدًا على مراحل تطور هذه السينما منذ انطلاقها وازدهارها وإعادة افتتاحها حتى وصولها إلى مرحلة الهدم، ولم تتمكن صدمة إغلاق السينما من أن تنسيه لحظة إعادة افتتاحها بعد التجديد عام 1984 بحضور الراحلة فاتن حمامة وملك الترسو فريد شوقي وعدد كبير من الممثلين، فقد كان الفيلم الذي عُرض في هذا الحفل هو فيلم "عندما يبكي الرجال"، من بطولتهما وبمشاركة نور الشريف وفاروق الفيشاوي ومديحة كامل، وعن هذا اليوم يحكي عم أشرف "كان افتتاح جميل أوي وفاكره زي ما يكون لسه من قريب".


"صعب أوي أن ما يبقاش في سينما فاتن حمامة"، يقولها عم أشرف والحزن لا يفارق ملامحه، فهذه السينما بالنسبة له علم من أعلام منطقة المنيل، وعلامة مميزة، " أنا الزباين بوصفلهم مكان المحل عند سينما فاتن حمامة وكمان في الدعاية بكتب أمام سينما فاتن حمامة ومفيش أي محل مهما كانت شهرته قدر يغطي على شهرة السينما دي في المنطقة أو أنه يبقى علامة مميزة زيها".


يرى عم أشرف أنه حتى وإن سيتم استبدال هذا المكان وهذه السينما بمول تجاري كما يُقال فـ"أضعف الإيمان" أن يحمل هذا المبنى الجديد اسم فاتن حمامة إن لم يوجد بداخله سينما، أما إن كان من ضمن الخطط أن يحوي دار عرض بداخله، فيرى أنه يجب أن تحمل هذه السينما اسم الراحلة المبدعة فاتن حمامة،" دي كانت فنانة عظيمة".


مع ضغط الإعلام وتَسليطه الضوء مؤخرًا على سينما فاتن حمامة كاشفًا أهميتها، توقفت أعمال الهدم مؤقتًا في مبنى السينما المتهالك، لكن المبنى من الداخل قد فقد كل ملامحه، ولم يتبق من السينما سوى بقايا ذكريات متناثرة في المكان تستعد لأن تُطمس، كما اختفت وتلاشت كل المعالم الأخرى لسينما "فاتن حمامة".


الجريدة الرسمية