رئيس التحرير
عصام كامل

حسـن زايـد يكتب: شــــجــرة الــتـــــوت

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

شجرة التوت شجرة ضخمة، تزرع في الغيطان بقصد الاحتماء بها من حرارة الشمس، أو القيلولة تحتها، أو تناول صرة الطعام والجلوس تحتها لتناول ما تيسر منه، الذي غالبًا ما يكون قطعة جبن قديمة مغموسة بالمش، مضافًا إليهما حبتين من الطماطم، مع تدبر عودين من الجرجير أو الفجل أو الجعضيض، وقلة الماء المثلجة من تعرضها لنسمات الظلال.

ونادرًا ما كنا نسمع عن استخدام أوراقها في تربية دودة القز، التي تنتج الحرير الطبيعي.

عندما تصيبها الشيخوخة ـ أو تكون هناك حاجة ملحة لمكانها ـ يجري قطعها، والانتفاع بخشبها.
كانت أشجار التوت محط اهتمام أطفال القرية، بعد ميل الشمس في اتجاه الغروب، ولما كانوا يفتقرون إلى القدرة على تسلق هذه الأشجار، فقد كانوا يتحلقون حولها، ويقذفونها بالطوب، فتتساقط ثمراتها كالمطر فوق رؤوسهم، فيجرون وهم يتدافعون، يلتقطون الثمرات، وينفخونها حتى يسقط ما علق بها، ثم يلتهمونها التهاما بتلذذ ونهم، فإذا حضر صاحب الحقل، وهو يركب حماره، ويحثه على المشي سواء بضربه بعصا رفيعة، أو بضم ساقيه على بطنه، مصحوبًا بصوت لا معنى له اعتاد الحمار على سماعه، وهو يعني بالنسبة له الإسراع في المشي، جرى الأطفال في كل اتجاه خشية أن يمسك أحدهم صاحب الحقل، الذي تضرر حقله من الطوب، وكثرة الدهاس، رغم أنهم يدركون ـ من واقع التجربة ـ أنه يهشهم فقط.
أما حكايتي مع التوتة فقد بدأت منذ اعتدت الخروج للمذاكرة خارج البيت، خاصة في الشهادة الابتدائية، حيث كنت أعشق أيام العطلات لسببين: أحدهما مذاكرة الدروس، ومراجعة ما فاتني مذاكرته، الثاني: اللقاء بيني وبين شجرة التوت، فقد كنت أخرج للمذاكرة مبكرًا، أخرج من القرية، مسلمًا قياد نفسي للسكك والخلجان، بين المزارع والغيطان، كنت أحب المذاكرة بصوت مرتفع كمن يخاطب الكتاب ويناقشه، فإذا تعبت من المشي أجلس على جسر الخليج كي أستريح، وأنا مستمر في المذاكرة، فإذا استرحت نهضت من مجلسي، متخذًا طريقي بين الحقول سربًا. تأخذني السكك وجسور الخلجان وتحطني إلى مسافات بعيدة، فإذا شعرت بالجوع والتعب بحثت عن شجرة توت، فإذا وجدتها وضعت الكتاب وطرف ثوبي بين أسناني واحتضنت الشجرة وتسلقتها حتى أصل إلى أفرعها المتدلية المثمرة، واتخذ من المسافة بين الفرع وساق الشجرة الأم مجلسًا آمنًا، ابتدر الشجرة بالتقاط ثمارها الناضج الطازج مباشرة، وأخذ في التنقل من فرع إلى فرع، حتى أشعر بالشبع، وتزداد المتعة إن كانت هذه الشجرة تثمر الثمرات السوداء التي لا تخلو من مزازة، وتبلغ متعتي أقصاها إذا كانت الشجرة على جسر أحد المصارف أو الترع، فحينها أشعر بهفهفات النسيم الطرية، وساقاي متدليان في اتجاه الماء الرائق، فكنت أنظر في الماء فأجد أسماك البلطي الصغيرة، وأسماك البياض، والقراميط، وهي تسبح في غير اتجاه، وتتساقط فوقها خيوط الشمس المتسربة من بين الأغصان.

ليس هناك حساب للوقت، فإذا انتبهت إلى مرور وقت طويل، هبطت من فوق الشجرة قفزًا، فيحدث ذلك اضطرابًا بين الأسماك.
ظلت التوتة في صحبتي حتى تخرجت في الجامعة، وغادرت القرية إلى المدينة من أجل العمل، وطال بي العمر حتى رأيت التوت يباع في الأسواق.
الجريدة الرسمية