عم «عيد».. هكذا يرحل الطيبون
نكتب لا لشيء سوى لتخفيف الآلام وتهدئة الوجع ومهادنة الحزن، قليلة هي أوقات الرحيل التي تُفجعك بصدق وتضعك في آتون الحزن الحقيقي، وقليلون هم القادرون على جعلك كذلك و«عم عيد» الذي رحل عن دنيانا بالأمس كان من هؤلاء القليلين، ربما الأمر طبيعيًا، فهو من الغرباء في كل شيء، الذين لا يطيقون الجلوس قليلًا، إما أن يطلق لنفسه العنان أو يرحل سريعًا، ليس مملًا أو كئيبًا، وكما كان يوزع البسمة على الجميع فقد خشى أن يسبب لنا الحزن فرحل في أيام قليلة كان استعد فيها لكل شيء وكعادته لم يخبرنا.
55 عامًا كانت رحلته في تلك الحياة، رأيته فيها لدقائق فلم يكن من هذا النوع الذي يحب الجلوس كثيرًا، لن أتحدث عن شطارته في العمل كمسئول عن ملف التموين الذي حاور معظم وزرائه بمجرد توليهم المنصب، ولن أتحدث عن التزامه الذي كان مثار إزعاج لنا نحن الصغار، كيف بالرجل الذي يكبرنا بسنوات هو الأنشط فينا، لن أتحدث عن هذا كله فللرجل وجه آخر.
خلال المرات التي التقينا فيها كان صاحب وجه ثابت، بشوش، يتحدث بحماس طفل صغير عما كشفه من خبايا وزارته في المرة الأخيرة، عن نيته ماذا سيفعل غدًا، أو كلمته الأثيرة «محضرلك تحقيق نوعي هيعجبك» وبدون أن أسمح لنفسي أن أسمع تفاصيل فكرته أوافق عليها من الوهلة الأولى.
لكن في تلك اللقاءات كان يحضرني سؤال، متى يتعصب هذا الرجل، له مسئوليات بالطبع، وعنده هموم كثيرة ولا شك، لكنه ضرب بها عرض الحائط أو على الأقل لم يسمح لها أن تظهر بعلاقته مع البشر وخاصة زملائه، لم أضبطه يومًا غاضبًا من عدم نشر موضوع، أو حانقًا بسبب تأخر الراتب، أو متذمرًا من كثرة التكليفات، كان يتقبل كل ذلك بصدر رحب وينفذه على أكمل ما يكون، والابتسامة لا تفارق وجهه، من أين له تلك القدرة على معاندة ظروف الحياة، أتطلع إلى جسده لم يكن من أصحاب العضلات، أبحث فيه عن شيء غريب لم أجد، هل هي قوة تفكيره أم أنها نظرية «كله على الله»
«عم عيد» طفل كبير، يضحك ويمازح ولديه من الذوق ما يجعلنا نُحرج منه كثيرًا، هل من المعقول إنه كان يتضايق حين يجلس ونقف نحن الشباب، يكرر دعوته بالقيام لتجلس إحدى الزميلات ولا يستقر طالما هناك من يقف، عم عيد من ملايين البشر الذين عاشوا ببساطة، لم تكن لديه أحلام كبيرة، ربما حلمه الوحيد أن يعيش مبسوط فقط وقد كان، ودون أن يدري خلق عظمته في قلوب محبيه من تلك البساطة، فعليًا لم أر حزنا كهذا على وجوه الزملاء في «فيتو» بسبب رحيله من قبل.
حين عرفت أول أمس أنه في غيبوبة انقبض قلبي بشدة وحزنت على الرجل، انتويت زيارته لكن هل يسمح عم عيد لنا بطول الحزن والقلق، كان كريمًا حتى في موته، رحل في ساعات معدودة، وأحزننا لسنين طوال، سنين سنظل نتذكر فيها وجه هذا الرجل، حسبنًا أن نحسبه من الصالحين، ولم لا والرجل لم يتسبب في حزن أحد خلال 7 أعوام هي مدة مزاملتي له في العمل!