أزهى عصور الحظر!
من المعلوم بالضرورة إن الأصل في كل شيء هو الإباحة، غير إننا قلبنا الأصول ليصبح الحظر يطاردنا في كل شيء، وبات في النفوس قلق واضطراب، ولم يعد أحد يدرك ما يدور حوله وبات الممنوع أكثر من المسموح، وفيما يبدو إننا نتراجع سنوات كثيرة عما كنا عليه في أي شيء، ويشعر المرء أحيانا إنه مفعول به، وإن عليه أن ينفذ ما يقرره الآخرون قولا وفعلا، وكما قال الشاعر: وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات.
وتزداد قوائم الممنوعات حتى إن كثيرا من الإعلاميين والصحفيين تحولوا بالفعل إلى مجرد أبواق بلا عقول، وأكثر ما يثير الغضب هو في هؤلاء الأوصياء على عقل وضمير المصريين، وظن بعضهم أن تلك الأمة في حاجة للحماية والتغليف من فرط سذاجتها مثلا، وربما لا يعلم الذين يسارعون بالحظر إنهم يؤكدون ما كان الناس تتشكك فيه ويفتحون الأبواب لسيناريوهات ربما تكون غير حقيقية.
وهو تقريبا ما يحدث الآن في حكاية حظر النشر في موضوع "مستشفى ٥٧٣٥٧"، وعندما سكت حراس المهنة كان لا بد من ضبط الأمور وتدخل النائب العام أقول ذلك وأنا ممن يعدون من المدافعين عن المستشفي وإدارته، ولكن حينما يتعلق الأمر بالإفراط والتوسع في حظر النشر فإن الانحياز للمهنة هو الأولى، وفيما يبدو أيضا أننا لا نتطور مع العصر.
فنفس العقلية التي كانت تفرض الحظر من أيام الاتحاد الاشتراكي هي المستمرة حتى المجلس الأعلى للصحافة بفارق بسيط أن القدامى كانوا محترفين، ويوصون النائب العام بالحظر، بينما الهواة الجدد يختصرون الطريق بإهانة دولة القانون ويضيفون الحظر المباشر لصلاحياتهم، وبالضبط كالدببة.
فإن هذا القرار ربما يؤدي لعكس ماكان يستهدفه، خاصة أن وقائع النشر للمستشفي سواء كنت مؤيدا له أو معارضا ليس من بينها مايهدد الأمن القومي، أو يؤثر على جهات التحقيق، فلماذا يحمل مجلس الإعلام نفسه هذا العبء، خاصة في ظل رجل مهني كبير بحجم مكرم محمد أحمد، ولماذا لم يتم اللجوء للنيابة العامة من البداية، أو حتى المحكمة، وهما من أناط بهما القانون تلك المهمة.
لأن الكارثة ليست فيما حدث هذه المرة، ولكن في تلك السنة التي كان مجلس الإعلام سيجعلها فرضا، وكان اللاحقون سيهتدون وربما يبادر البرلمان بتوسيع مهمة المجلس ومنحه حق الحظر، ووسط كل ذلك لم يتحرك أحد من السادة المسئولين عن مهنة الصحافة والإعلام لإصدار قانون حرية تداول المعلومات، مع العلم إن مثل هذا القانون لا يخص رجال الاعلام فقط، ولكنه يخص الأمة كلها وحقها في معرفة الحقائق، حتى يكون لها دور في المشاركة السياسية.
ومن المعلوم بالضرورة إن حرية تداول المعلومات هي أبسط وأرخص وسيلة لمواجهة الشائعات، وتحجيم جنرالات فيس بوك وفكر الغموض والألغاز التي تحير الناس، وهذا القانون يوفر الأمان لوسائل الإعلام بدلا من البحث عن معلومات مثيرة تغطي النقص الفعلي في المعلومات، ولكن السلطة تصر على احتكار المعلومات، وتصر على إخفائها.
والمصيبة أن كل الأخبار والمعلومات المهمة خلال السنوات الماضية، عرفها الناس بالصدفة من الخارج وليس من الداخل، كما حدث في قصة تيران وصنافير، وصفقة القرن، والغاز الإسرائيلي، وجاء موقف مصر كرد فعل وليس فاعلا، وكأنه تبرير لاتهامات، لأن التأخير وتعمد حجب المعلومات جعل الأمر يبدو وكأن هناك في الأمر شيئا خاطئا.
وتلك نماذج تكررت عشرات المرات بدون أن نتعلم أن الحقيقة والإفصاح هما أقصر الطرق لمحاصرة الشائعات ووأد الفتن، وخاصة في الأمور الحساسة التي لا تحتمل المناورات، فلم يعلم أحد مثلا أي معلومة عن مشروع "نيوم" إلا خلال زيارة ولي العهد السعودي، وراح الإعلام المصري يستقي معلوماته من الخارج عن هذا المشروع العملاق، والمهم الأمر الذي جعل الحقائق تختلط بالشائعات وزاد الطين بلة أن راح بعض مقدمي التوك شو يشرحون المشروع نيابة عن الحكومة، وبمعلومات مغلوطة فيما يتعلق بآلاف الكيلو مترات التي ستساهم بها مصر في المشروع.
وهكذا فإن وجود قانون لحرية وتداول المعلومات يحمي الدولة ويحفظ هيبتها، وفِي نفس الوقت ينظم علاقة الدولة بالإعلام والاعلاميين وبغيره ستظل الشكوي من الطرفين.
ومن الطبيعي أن تفهم السلطة مصطلح حرية وتداول المعلومات تستدعي عندها الشق السياسي بكل ما فيه من حساسيات تفرضها ظروف الفوضي الإقليمية والحرب على الإرهاب بالداخل، مما يؤدي لاستبعاد إصدار هذا القانون بوصفه ترفا في وقت الحرب لا تحتمله المرحلة، ولكن ذلك مردود عليه لأن مساوئ عدم الإشارة أكبر على الاستثمار والاقتصاد، لأن غياب المعلومات يزيد المخاطر ولا يقدر عليه مستثمرو المشروعات الصغيرة والمتوسطة بوصفهم أقل قدرة على تحمل الصدمات والمفاجآت التي تزداد تبعاتها في ظل غياب المعلومات.
والأخطر أن غياب المعلومات يعطي الأمان للفاسدين بل ويمنحهم الحصانة، والحجة الأخرى التي يسوقها أنصار الحظر تكمن في المزايدة باسم الأمن القومي، وغالبا ما يلجأ إليها المصابون بفوبيا الأمن عند عجزهم عن التبرير المنطقي لرفض إصدار قانون حرية وتداول المعلومات.
وقد حان الوقت للتعامل مع الناس والأمة باحترام أكثر، وتغيير مفاهيم الوصاية، لأننا تأخرنا كثيرا والسبب في الفهلوة لغياب المعلومات، وهناك عشرات مشاريع القوانين فيها دراسات مقارنة مهمة لمثل هذا القانون في عدة دول، وتقول كلها إن الأصل هو الإباحة وإن الحظر هو الاستثناء، ولا يجب التوسع فيه أو القياس عليه وحصره في الموضوعات التي تنتهك الحق في الخصوصية أو الأمن القومي والاجتماعي.. والأهم أن يكون المنع متعلقا بطبيعة المعلومات، وليس بالجهة التي تحتفظ بها، حتى لا تظل المعلومات في بلدنا ما بين سري وسري للغاية!