هل يمكن للحكومة أن تصلح ما أفسده «التخطيط العمراني»؟
ينتابني شعور دائم يصل لمرحلة اليقين بأن برامج الحكومة شيء والواقع شيء آخر في جميع مناحي الحياة، بل إن بعض هذه البرامج يتناقض مع يجري تنفيذه. ولعلني لن أجد ما هو أفضل من مأساة الزيادة السكانية للدلالة على هذه الإشكالية.
التكدس السكاني ظاهرة يشعر بها سكان المحافظات غير الحدودية، وهي ظاهرة تم التعامل معها بشكل خاطئ عبر حكومات متعاقبة أدت إلى ما نحن فيه. ويبدو أن هذه الظاهرة فرضت نفسها على برنامج حكومة الدكتور مصطفى مدبولي حتى إن البند الأول في المحور الخامس لبرنامج الحكومة – والذي نشرت فيتو صورة ضوئية منه – تم تخصيصه "لضبط النمو السكاني والانتشار العمراني". هذا البند كرر ما حفظه الناس من ضرورة الحد من الزيادة السكانية والتوعية بخطورته، ثم تضمن البرنامج بندين عن تطوير المدن الجديدة القائمة وإنشاء ١٥ مدينة جديدة متكاملة.
إذًا حكومة الدكتور مصطفى مدبولي ستسعى كغيرها من الحكومات للحد من الزيادة السكانية، ولكني لا أعرف هل يمكن للحكومة أن تصلح ما أفسده التخطيط العمراني عبر عقود أم لا. فالمصريون كما هو معروف للكثيرين – وكما أعلن رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء – في العام الماضي يعيشون على مساحة 7.8% من المساحة الإجمالية لمصر، فضلا عن تدني خصائص السكان نتيجة قلة الموارد.
المدن الجديدة هي إحدى كوارث التخطيط العمراني. ولا أعرف كيف لمن درس التخطيط وكان مسئولا عنه أن سمح بإنشاء مدن ٦ أكتوبر، الشروق،،السادات، والسلام، و١٥ مايو، وغيرها من التوسعات العمرانية الأقرب من القاهرة حتى اختنقت القاهرة وصارت تبكي وتصرخ ولا تجد من يسمعها. والأمر لم يكن يحتاج حتى لمن درس التخطيط فمن كان يرى القاهرة في نهاية السبعينيات كان يجب أن يجرّم كل من يدق مسمارا واحدًا حول القاهرة.
ولعلي سأكون صادما هنا عندما سأذكر أن المدن الجديدة تتناقض مع الهدف الرئيسي "للهيئة العامة للتخطيط العمراني". فالهدف الرئيسي للهيئة العامة للتخطيط العمراني - وفقًا لدراسة منشورة على موقع الهيئة بعنوان: "سياسة المدن الجديدة في مصر: أثر متواضع وعدالة غائبة" - "هو جذب السكان بعيدًا عن الشريط الضيق لوادي النيل وتوزيعهم بشكل أكثر توازنا في المساحات الخالية في مصر"، فهل حققت المدن الجديدة العدالة في توزيع السكان بشكل كان يجنبنا كوارث التكدس السكاني؟
الإجابة على هذا السؤال لن تكون لي ولكنها للدراسة المنشورة على موقع الهيئة والتي تؤكد – ودعوني أقتبس هنا من كلام الهيئة أنه: "ليس هناك مجتمع عمراني جديد واحد تمكن من تحقيق عدد السكان المستهدف، وأغلبية تلك المجتمعات لم تتخط حتى حد الـ 50%". الدراسة كانت صادمة أكثر عندما أكدت "أن نجاح المدن الجديدة في تحقيق عدد السكان المستهدف متواضع للغاية، حيث يتراوح بين 3% في أسوأ الأحوال إلى 27% في أفضلها".
من بين المشكلات التي لم يتنبه إليها من خطط لهذه المدن – وفق كلام الهيئة العامة للتخطيط العمراني – أن أغلب المجتمعات العمرانية الجديدة تم إنشائها كمدن تابعة وليس كمدن مستقلة بذاتها مما جعل سكان هذه المدن يتنقلون يوميا إلى المدن الرئيسية القريبة للعمل. الدراسة المنشورة على موقع الهيئة العامة للتخطيط العمراني ضربت مثلًا عن المدن الموجودة حول القاهرة فذكرت أنه "وبرغم وبرغم الزيادات السكانية التي شهدتها 6 أكتوبر والقاهرة الجديدة والشيخ زايد، فإن القاهرة نفسها لم يخف بها عبء المواصلات والازدحام اليومى، وما زالت نسبة الكثافة السكانية بها في ارتفاع".
لم يعد من الممكن إعادة عقارب الساعة للوراء لإدراك ما حل ويحل بنا من أزمات نتيجة للتخطيط العمراني الكارثي للقاهرة، والذي أدى لأزمة تٌطلق عليها "الهيئة العامة للتخطيط العمراني": اللامساواة المكانية في القاهرة حيث توجد مناطق ثرية توفر لسكانها خدمات أفضل من المناطق الفقيرة في القاهرة.
كان الأولى بمن خطط للمجتمعات العمرانية الجديدة والتوسعات العمرانية أن يخطط لهذه المدن في سيناء والصحراء الغربية مع منح امتيازات لمن ينتقل إليها وللمستثمرين فيها. لكن المصيبة وقعت وعلى الجميع أن يتحملها بسبب تخطيط خاطئ. لا أعتقد أن المشكلة كانت في مد شبكات كهرباء للصحراء الغربية لأننا كهرباء مصر تصل لفلسطين، وكان من الممكن الاعتماد على الطاقة الشمسية. ربما تكون المشكلة في المياه وكان يمكن حلها بشق الترع والاعتماد على مخزون المياه الجوفية، ولكن هذا التخطيط غاب عن أهل التخطيط.
الدكتور شريف إسماعيل كان قد أعلن عن إنشاء ١٥ مدينة جديدة أثناء تدشين مدينة العلمين الجديدة ولكن ليس هناك معلومات متاحة عن مواقع هذه المدن. أعرف أن الدكتور مصطفى مدبولي ليس مسئولا عما مضى من أخطاء ولكن على حكومته أن تراعي أن يتم إنشاء المدن الجديدة على مسافات بعيدة عن القاهرة وعن شريط النيل.