الأدعية النموذجية
أدب الحديث مع الله، لا يعني –من وجهة نظري– وجود قوالب جاهزة عليك أن تستعين بها، لا يعني أن نتبادل على التليفونات ومواقع التواصل الاجتماعي صيغا جاهزة للدعاء، مع شرح فضل هذا الدعاء -بصيغته تلك- وقدرته على جلب الرزق، ومواجهة الكوارث، وحفظ الأهل والمال والولد، الحديث مع الله ليس له صيغة نموذجية مثل أسئلة الثانوية العامة..
وحين أقرأ تلك الأدعية التي نتوارثها منذ مئات السنين، أشعر كأنني ممثل على المسرح، أو أمام الكاميرا، يردد سيناريو مكتوبا سلفا، فقط يجتهد لكي يندمج في الدور، ويا حبذا لو بكى أثناء الدعاء، فإن لم يستطع البكاء، تباكى إتقانا لدوره!
الحديث مع الله يمكن أن يكون بأي صيغة، لا تصدق أنه لن يسمعك إذا قلت كلاما لم يرد على لسان السلف، ولم تسمع إمام المسجد يردده كالببغاء كل جمعة، تحدث مع الله كما تحب، قل له ما تشاء بأي لغة، اطرح شكواك وتحدث عن وجعك، كما لو كنت تحدث أبيك، أو أمك، أو صديقك..
يروي الأديب إبراهيم أصلان أنه أثناء عمله في هيئة البريد، كان هناك مكان يسمى "المهملات"، يحتوي على الرسائل التي لا تحمل عنوانا دقيقا، أو الأوراق التي يرسلها النشالون، الذين يعز عليهم ضياع أوراق مهمة من ضحاياهم، مثل البطاقات الشخصية، أو جوازات السفر، والمستندات الرسمية بشكل عام، فيُرسلونها في خطابات باسم صاحبها، ويحتفظ بها مكتب البريد حتى يحضر من يسأل عنها، ومن بين تلك المهملات عثر أصلان على خطاب كتبه مواطن مصري عام 1963، وأرسله إلى من؟ إلى الله عز وجل!
صيغة الخطاب تقول: إلى ربنا العزيز، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا مصطفى عبد الوهاب عبد العليم، من بني مزار مديرية المنيا، أنا كنت بشتغل في بلدي شغلة وبعدين رفدونا كلنا، اللي قال لي يا مصطفى اذهب على مصر وأنت تشتغل في أي شغلة، فحضرت مصر، أنا في مصر أديلي 20 يوما وأنا ببحث عن شغل، ولم ألقي أي شغلة تناسبني، فأرجوك أن تبعت لي أي شغلة، وأنا أشكرك.. والسلام عليكم ورحمة الله.. أرجو الرد حالا حالا حالا..
التوقيع: مصطفى عبد الوهاب
عنوان مصر: بولاق شركس – حارة المصري – نمرة 22.
هذا رجل يبدو من لهجته ولغته الركيكة، أنه فلاح أو عامل بسيط، فقد مصدر رزقه، وحضر للقاهرة بحثا عن فرصة عمل، ولما يأس من إيجادها، قرر أن يكتب إلى الله، لا أعتقد أن واحدا في ظروفه، وثقافته المحدودة، يمكن أن يقدم على هذه الخطوة من قبيل السخرية، أو الاستظراف، هو رجل فقير لا يمكن أن يضحي بثمن طابع البريد لكي يمارس خفة الظل، ولا يمكن لواحد في ظروفه وبساطة حالة أن يستخف، أو يتجرأ على رب الكون..
لكنه فيما أظن، كان صادقا وبريئا، وربما تصور أن خطابه الغريب سيصل إلى من لجأ إليه طالبا العون والرزق، فهل يمكن أن نتخيل أن يعاقبه الله على سذاجته، فلا يستجيب لدعائه، وينزل عليه لعنته؟
في السياق نفسه يتذكر أبناء جيلي المعركة التي نشبت في الثمانينيات، بين الكاتب الكبير توفيق الحكيم، ومن اتهموه بالتطاول على الذات الإلهية، لأنه كتب سلسلة مقالات نشرتها جريدة الأهرام في ذلك الوقت بعنوان "حديث إلى الله"، حتى يتجنب الحكيم أذى من يدعون أنهم وكلاء الله في الأرض، اضطر إلى تغيير عنوان المقالات إلى "حديث مع الله"!
صادقا أقول لكم، عندما أدعو الله، أحدثه فيما يشبه "الفضفضة"، أحكي له عن خيباتي وهزائمي، أصارحه بأخطائي، بالمعاصي التي ارتكبتها، بأحلامي التي تعاندني، اعترف بضعفي في هذا الموقف أو ذاك، أشكو له صديقا خذلني، أو حاكما قهرني، أو صاحب عمل أهانني، أطلب منه أن يعينني على فقري ومرضي وقلة حيلتي، أتقرب إليه بالصدق في المشاعر، والبساطة في القول، وشجاعة الاعتراف بالخطأ والخطيئة، والإقرار أنني بشر من صنع يديه، خلقني لكي أقاوم ضعفي، وأنا على العهد، أخطأ أحيانا، لكنني أعود إليه، أنسي أو أتكاسل، لكنني أقاوم وأقاوم، هو من خلقني ضعيفا، وأنا من يقاوم هذا الضعف، حبا فيه، وسعيا إلى رضاه..
قولوا لله ما في نفوسكم، فليس بينكم وبينه وساطة، وهو لا ينتظر منكم أدعية نموذجية، ترددونها على طريقة الدكتور عمرو خالد، أثناء تسجيل فقرته من أمام الكعبة!