حروب كرموز الحقيقية
في يونيو عام ١٨٨٢ نشبت عركة في الإسكندرية بين عربجي حنطور ومالطي بسبب الخلاف على الأجرة، حيث ظل العربجي يلف بالمالطي طوال اليوم دون أن يعطيه الأجرة، فما كان من المالطي الأجنبي إلا أن أخرج سكينا وطعن بها العربجي المصري حتى الموت، فثارت حمية أهل الإسكندرية واتسع نطاق الشجار حتى طال معظم أحياء المدينة، وقتل فيها عشرات الأجانب والمصريين، واتخذت بريطانيا من تلك الواقعة أو المذبحة ذريعة لضرب الإسكندرية بالمدافع بدعوى حماية الأجانب والأقليات، وتطورت الأوضاع حتى وصلت لاحتلال مصر كلها بعد عدة أسابيع..
وفيما بعد اتضح أن الواقعة كانت مدبرة سلفا بين بعض الخونة المستفيدين من دخول إنجلترا مصر، وكانت الحجة أو الفتنة لتبرير ذلك الاحتلال هي الدفاع عن حقوق الأقليات الدينية، ومنذ تلك الأيام لم تتوقف محاولات الغرب إعادة إنتاج حادث المالطي والعربجي، وكانت تلك الوقائع التاريخية الحقيقية المشحونة أن تسهم في إنتاج عمل سينمائي عالمي، بل كان يمكن لفيلم حرب كرموز أن ينضم لكلاسيكيات السينما المصرية بقليل من المهنية والتوثيق الجيد..
لكن الاستهتار، وعدم التدقيق في الملابس والسيارات وموديلات الفترة التاريخية، وضياع الحبكة الدرامية من السيناريو وضعته ضمن أفلام السبكي للأسف، وبدا مأمور القسم يتصرف ويأخذ قرارات مصيرية دون الرجوع لرؤسائه أو لوزارة الداخلية، حتى في مشاهد مقاومة المحتل البريطاني غلب عليها حركات الرجل الأخضر الذي يحارب حيش الإمبراطورية البريطانية لوحده، بمساعدة عدد من رجال الدرك بالقسم الذي يرأسه..
عكس المتعة التي تثير المشاهد في الأفلام الأمريكية حيث الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة وضبط الحبكة الدرامية، وكان أمام صناع الفيلم قماشة تاريخية تعطيهم كل ما يطمحون إليه، ويحقق أهدافهم من إنتاج الفيلم، لكن الحلو مايكملش كما يقول المثل المأثورً.
لكن لا بد من الإشادة بالأداء المبهر لأبطال العمل كلهم أمير كرارة، ومحمود حميدة، وغادة عبد الرازق، واللبناني فؤاد شرف الدين، الذي لعب دور الجنرال آدامز، ومصطفى خاطر، وفتحي عبد الوهاب، وبسيوني فؤاد، ومحمد علي رزق، ومحمد عز، ومصطفى منصور، وروجينا، وإيمان العاصي، وطبعا المخرج بيتر ميمي الذي ينتظره مستقبل كبير.
وتدور أحداث الفيلم في أربعينيات القرن الماضي حيث تتعرض فتاة للاغتصاب على يد مجموعة من الجنود الإنجليز فيثأر لها ثلاثة من الشبان المصريين، ويموت أحدهم، ويتم احتجاز جندي إنجليزي في قسم شرطة كرموز الذي يرأسه الجنرال يوسف المصري، ويرفض مطالب الجنرال آدامز بتسليمه الجندي المحتجز، وعلى الفور يحرك الجنرال الإنجليزي جنوده لمحاصرة قسم الشرطة، وتدور معارك شرسة بين يوسف المصري وجنوده وقوات الاحتلال المدججة بكل الأسلحة الخفيفة والثقيلة..
وهو ما يعيد للذاكرة ما وقع في حادث "دنشواي" عندما خرج عدد من الضباط الإنجليز لاصطياد الحمام في قرية دنشواي، فأصيبت إحدى السيدات بعيار ناري وماتت في الحال، واحترق مخزن كان الفلاحون يخزنون فيه القمح، فاستشاط الأهالي غضبا وهاجموا هؤلاء الضباط، ففر البعض بينما توفي أحدهم متأثرا بضربة شمس، فعقد الإنجليز محاكمة لتأديب لأهل دنشواي، ورأس تلك المحكمة بطرس غالي باعتباره قائما بأعمال وزارة الحقانية (العدل) في نوفمبر ١٩٠٦..
وقضت بالإعدام شنقا لأربعة من الأهالي، وبالأشغال الشاقة لعدد آخر، وبالجلد خمسين جلدة على عدد آخر، وتم تنفيذ الأحكام بعد محاكمة استمرت ثلاثة أيام فقط، وأمام الأهالي، وهكذا كان أمام صناع الفيلم أحداث كثيرة يمكن ببعض الإبداع صياغتها لتشرح للأجيال الجديدة كيف كانت مصر بلا إرادة لسنوات طويلة، فالملك يتم تعيينه بموجب قرار من ملك بريطانيا وأحيانا من وزير خارجيتها، والوزراء يأتون على هوى الإنجليز، وكان الملك تابعا للمندوب السامي البريطاني..
ولا تزال حادثة ٤ فبراير عام ١٩٤٢ حاضرة عندما حاصرت القوات البريطانية قصر عابدين وأرغمت فاروق على تغيير الوزارة، وأعرف أنه ليس مطلوبا من السينما توثيق التاريخ، فتلك مهمة جهات أخرى، لكن روعة الأداء لفريق الفيلم والتصوير جعل المرء يتمنى أن تقوم السينما برواية الوقائع المصرية بتصرف طبعا، فكل أيام مصر لها تاريخ وحكايات تستحق.