خيالات المآتة

بعيدًا عن البحث في أصل التسمية.. فخيال المآتة هو جلباب محشو بالتبن أو القش يثبت في خشبة طويلة ويوضع في أرض القمح أو الأرز، حتى إذا تمايل مع الهواء خافت العصافير وابتعدت عن الأرض، وبهذه الوسيلة يضمن الفلاح محصولا لا تقاسمه فيه العصافير، ويضمن أمثالي الراحة من الدوران حول الأرض والخبط بالعصا على صفيحة فارغة، كأن صوتها جدار يحول بين العصافير وسنابل القمح أو الأرز.

كنا نتفنن في صناعة خيال المآتة، فأحيانًا كنا نستبدل الجلباب ببنطلون وبلوفر، نُثبتهما على فرع شجرة بعد حشوهما بالقش، حتى إذا مال الفرع خافت العصافير وانصرفت، وبمرور الوقت، وتماشيًا مع التطور الكبير في مناحي الحياة.. استحدث البعض شكلًا جديدًا لخَيال المآتة، أشرطة من البلاستيك الخفيف يتم تثبيت طرفاها على خشبتين، إحداهما في أول الأرض والثانية في نهايتها، تهتز الأشرطة بلفحة هواء خفيفة فتحدث ضوضاء تخشاها العصافير.

على الرغم من كل هذه التفانين في صناعة خيال المآتة.. فإنه لم يكن بديلًا للعصا والصفيحة والدوران حول الأرض، فبعد أيام من ثبيته وتخويفه للعصافير.. يتحول إلى مهبط ليس للعصافير فقط.. لكن لكل الطيور، الحمام واليمام وفراخ الغيط، ويحلو للجميع قزقزة حبات القمح وهم وُقوف فوق رأسه، أما كتفيه فتتحول إلى بيت للراحة يقضي الطير حاجته عليها، وبذلك يتحول خيال المآتة بكل أشكاله إلى عبء في اقتلاعه وحمله إلى خارج الأرض، والإلقاء به على حافة أقرب مصرف، ليَستوعض صانعوه الله في البلوفر والبنطلون أو الجلباب، وفي حشوة قش أو تبن كان من الممكن أن تكون وجبة للمواشي.

مع مرور الأيام.. انتقل خيال المآتة من الريف إلى المدينة، وكأن القدر أَبى أن يحرمني منه، وكأن الطرق بالعصا على الصفيحة أصبح مكتوبًا عليَّ في الصِغر والكِبر، وكأن خصوبة خيال الفلاح في صناعة خيال المآتة انتقلت إلى بعض رجال الأعمال وبعض من أصحاب القرار الذين أضافوا إليها ما يتفق وأهواءهم، فها نحن أمام خيالات مآتة ترتدي البذلة الحديثة التي شيرت والقميص المستورد وفساتين راعت الحشمة وأخرى خاصمتها.

على الشاشة نشاهد يوميًا بعض هذه النماذج من الخيالات، ضجيجها ملء السمع، وتقاسيم وجهها ملء البصر، منها ما يسر الناظرين بطلته، حتى إذا تحدث انصرف عنه الجميع، ومنها ما لم يرق للغالبية الاستماع أو النظر إليه، هؤلاء خيالات مآتة في صورة مذيعين ومذيعات، صنعهم أصحاب القنوات وفقًا لأهوائهم ودفعوا بهم على هواء قنواتهم، وبعضهم دفع بهم آخرون ربما للمآرب نفسه، تعجبك مناظرهم، حتى إذا استمعت إليهم تكتشف أن عقولهم بالحشو نفسه (تبن أو قش).

أصبحت خيالات مآتة الشاشة عبئًا على الجميع، مثلما كانت نظيراتها عبئًا على الفلاح، فقد اعتقد صانعوها أن الدفع بهم على الشاشة يحمي البلد من غربان تطل علينا من قنوات معادية، لكنها صارت بجهلها مادة للغربان ومرتعًا لتطاولهم، ونقطة ضعف لدولة طالما كانت شاشتها وصحافتها مصدرًا للمعلومة ولرعب المتطاولين، لم تشفع أحدث الموضات لخيالات الشاشة، ولا الأساور وخواتم الماس، ولا الدلال ولا تركيب الشعر أو عدسات العين الملونة، فما يشفع لهم عند أصحاب (الهوى والهوا) لا يتناسب مع حرب يشنها علينا يوميًا من الخارج أصحاب أهواء ومطامع.

خيالات مآتة الشاشة لا يستقيم استمرارها وحالة الحرب التي تعيشها مصر، فإعلام العالم في واد وهؤلاء في واد آخر لا يوجد فيه إلا من صنعهم، انشغلوا بالظهور على الشاشة وهم غير مؤهلين.. فشَغلوا أصحاب النفوس الضعيفة ليَغيبوا ويُغيبوهم عن واقع إعلامي متردي، وكأنهم تآمروا للقضاء على أقوى سلاح كنا نصدره للعالم.

خيالات المآتة مستمرة على الشاشة باستمرار أهل الهوى وأصحاب الهوا، والغربان التي تأتينا من الخارج لتنهش عقولنا مستمرة أيضًا، وها أنا مستمر في المهمة نفسها، أضرب بالعصا على الصفيحة، عسى أن يسمعها صاحب قرار، فتختفي الخيالات، وتطير الغربان.
basher_hassan@hotmail.com