دولة التلاوة في محراب المحاكاة
ارتبط تكوين المصريين بعلامات تركت بصماتها في الشخصية المصرية، فنشأت تحمل من إرثها ما تتميز به عن غيرها، وفي عالم تلاوة القرآن أبدع قراء مصر القدامى، وأبهروا العالم بأصواتهم وطريقة أدائهم، فكانوا خير تعبير عن مقولة: إن القرآن نزل بمكة وقُرئ بمصر.
تتوالى الأجيال وتتغير الأزمنة ويظهر جيل جديد من أئمة التراويح بمساجد مصر خلال شهر رمضان المعظم، لا يحمل من شخصية القارئ المصري شيئًا يميزه، فتشعر وكأن المساجد في مصر انتدبت قراءً من الخليج والدول العربية لإمامة المصلين بمصر، فانقلبت الآية وانعكست الصورة، وأصبح المتبوع تابعًا.
تتميز التلاوة المصرية بالرصانة وتوضيح المعنى وإحكام القراءة واتزان الصوت والتطريب من خلال الأداء النغمي الواعي المتقن، أما القراءة غير المصرية فتتميز بمقامات صوتية لا تتناسب مع أذن المستمع المصري، ولا طبيعة الشخصية المصرية، هي كأصوات جميلة تميز أصحابها، ولها أسلوبها الخاص كقراء الحرم والمدينة، ولكن الذي تربى على سماع إذاعة القرآن الكريم المصرية لا يمكنه أن يذهب لمحاكاة غير المصريين.
قراء مثل على محمود وعبد العظيم زاهر ومحمد رفعت ومصطفى إسماعيل والحصري والمنشاوي وعبد الباسط عبد الصمد والبهتيمي وعبد العزيز على فرج ومحمد عمران ومحمود على البنا وغيرهم المئات من عظماء التلاوة المصرية، الذين أصبحوا مدارس للتلاوة في العالم الإسلامي يسير على نهجهم كل من جاء بعدهم.
وفي عصرنا نجد مشاهير القراء غير المصريين متأثرين بقراء مصر القدماء، ومنهم إمام الحرم بندر بليلة والقارئ المغربي عمر القزابري والقارئ الصومالي عبد الرشيد صوفي والقارئ السنغالي محمد الهادي توري، وعندنا من مشاهير القراء المصريين من يحافظون على أصالة القارئ المصري وتميزه، ولكن ما يحزننا هو ندرة هؤلاء القراء مع كثرة من يقلدون قراءً غير مصريين فضاعت هوية القارئ المصري وتهاوت وأصبحت الأصوات تتشابه وتختلط لا تستطيع التمييز بين قارئ وآخر.
انسحب افتقاد الصوت المصري للهوية إلى كل المجالات بما فيها التعليق الرياضي، فقبل انطلاق بطولة كأس العالم سمعت مقدم لاعبي المنتخب المصري في التمرين الأخير للفريق على ملعب إستاد القاهرة يقلد المعلق التونسي الشهير عصام الشوالي، بعدما كان التعليق المصري هو الرائد في عالم كرة القدم، بأصوات تركت بصمتها أمثال الكابتن لطيف وعلي زيوار وحسين مدكور وميمي الشربيني ومحمود بكر وحمادة إمام، أصبح الآن الأسبقية للمعلقين غير المصريين وصغار المعلقين يقلدونهم.
أتمنى أن يدرك المصري قيمة الهوية والحفاظ على هويته في كل المجالات بما يميزه عن غيره، وإلا فإن بلدًا يفتقد فيه المواطن لهويته يصير بلدًا بلا هوية.