كيف نهزم الإرهاب بالدراما؟
سؤال تفرضه دراما رمضان التي أسرفت – ربما بترتيب مع الدولة – في طرح قضية الإرهاب الذي نعاني منه، منذ أن تمت إزاحة جماعة الإخوان المسلمين عن الحكم، ويفرضه أيضا واقع يقول إننا فعليا نعاني الإرهاب –وما زلنا- منذ سبعينيات القرن الماضي، عندما انسلخت عن جماعة الإخوان فصائل مختلفة، نفذت عملياتها الإرهابية التي طالت في تلك الفترة، الشيخ الذهبي وزير الأوقاف الأسبق (1977)، والأديب يوسف السباعي (1978)، ثم الرئيس أنور السادات (1981)، وما زالت تحصد الأرواح، وخلال هذه السنوات الطويلة، لم يقف الفن مكتوف الأيدي، بل دخل معركة كانت نتيجتها بعض الانتصارات، وكثير من الإخفاقات!
وإذا أردنا تقييم دراما الإرهاب –إن جازت التسمية– لهذا العام، فلا بد أن نعود إلى الجولات التي دخلها الفن من قبل لمواجهة موجات الإرهاب، ويحضرني نموذجين يحققان تلك المقارنة، هما فيلما "طيور الظلام" للكاتب وحيد حامد والمخرج شريف عرفة، و"الإرهابي" للكاتب لينين الرملي والمخرج نادر جلال، وكلاهما من بطولة الفنان عادل إمام.
في طيور الظلام ستجد سيناريو متماسكا، يؤصل للظاهرة، ويقدم رؤية -هي الأكثر موضوعية- تؤكد أن الإرهاب هو الوجه الآخر للفساد، المحامي الإخواني علي عبد الظاهر(رياض الخولي)، هو المعادل للمحامي الفاسد فتحي نوفل (عادل إمام)، الذي يحقق ثروة عريضة عن طريق دخول دهاليز السياسة والبيزنس من بوابة الحزب الوطني، ويتطور الصراع بين الشخصيتين إلى حد أن نتخيل كمشاهدين أننا أمام خصمين لا يمكن أن يلتقيا، لكن الفيلم يفاجئنا في نهايته بتقارب جديد بينهما في السجن، حيث يقول المتطرف لزميله الفاسد "نحن في مركب واحد"، ثم يلعبان الكرة، ويتسابقان على تسديد الهدف، وينتهي الفيلم عليهما معا، وهما يقذفان الكرة في وجوهنا!
أما في فيلم الإرهابي، فنحن أمام أبطال من بلاستيك، مصطفى عبد الرحمن، الذي يشارك في تنفيذ عملية إرهابية، ثم تضطره الظروف إلى منزل أسرة مصرية أرستقراطية، رب الأسرة طبيب مشهور، والأم سيدة أنيقة لا تفعل شيئا سوى الاهتمام بأسرتها السعيدة، وابن شاب يشرب الخمر لكن ذلك لا يؤثر على طيبة قلبه وتسامحه، وابنة حصلت على النصيب الأكبر من الرقة والحنان، أما أختها الصغرى، فهي موديل إعلانات متحررة..
لجأ السيناريست إلى بناء شخصياته على طريقة فيلم فجر الإسلام، حيث وجوه المؤمنين التي يشع منها النور، مقابل وجه أبو لهب الأسود وملامحه القاسية، فالأب هو طبيب متفاني في عمله لأقصى حد، يعيش مع زوجته المتفانية في حب أسرتها لأقصى حد أيضا، ابنته الكبرى في قمة الرومانسية، وابنته الصغرى بريئة ومنطلقة، إلى حد أنها تصر على أن تلعب الكوتشينة مع ضيفهم المتطرف، مرتدية شورتا قصيرا، وعندما يتحرش بها، تتهمه بالتخلف والرجعية!
لم تفلت بقية شخصيات الفيلم من هذا البناء الكارتوني، فالكاتب الذي يَستهدفه الإرهابيون"مستوحى من شخصية فرج فودة"، يتلقى التهديدات دون أن يهتز له جفن، بل ويرد على مكالمات التهديد بشجاعة عنتر بن شداد، مع تلقين من يهدده درسا في الوطنية، وعدم الخوف من الموت، بشكل مباشر وفج، والجار المسيحي فهو رجل طيب القلب، يشبه أبناء هذه الأسرة المثالية تماما، بينما زوجته مسيحية شديدة التطرف، كمعادل لشخصية عادل إمام، مع اختلاف الديانة، ويبقى زعيم الخلية الإرهابية، الذي قدمه باعتباره تجسيدا للشخص الانتهازي، الكذاب، القاتل، القاسي، المفتري!
نحن أمام عملين، الأول يطرح رؤية موضوعية لظاهرة الإرهاب، ويمتلك شجاعة توجيه الاتهام إلى الحزب الحاكم في ذلك الوقت، أنه بفساده واستبداده وجماعات المصالح التي تسيطر عليه، أسهم في خلق هذه الظاهرة، إن لم يكن هو السبب الوحيد لظهورها وتطورها، يقدم شخصيات من لحم ودم، تستطيع أن تجد لكل منهم شبيها في الواقع، إلى درجة أن بعض النقاد ألمحوا إلى محامِ إخواني معروف..
واعتبروا أن كاتب السيناريو استوحى منه شخصية المحامي المتطرف، الذي يهوى العزف على العود، أما زميله الفاسد، فنستطيع أن نجد ملامحا منه على وجوه العشرات، ممن حققوا أحلام الثراء، عبر الاقتراب من دائرة صنع القرار في مصر، ستجد في مقابل هذا وذاك زميلهم الشريف (أحمد راتب)، الذي استمر قابضا على مبادئه رافضا المتاجرة بها، لكنه في المقابل ظل فقيرا!
أما العمل الثاني، فهو رؤية أمنية أكثر منها فنية، تشعر أن السيناريو ممهور بتوقيع المؤلف والمخرج، وضابط العلاقات العامة بوزارة الداخلية، وقد قيل وقتها إن الوزارة أسهمت بالفعل في إنتاجه!
وعلى عكس طيور الظلام، ستجد نفسك في "الإرهابي"، أمام شخصيات كارتونية بامتياز، لم يراع السيناريست في رسمها ضميره الفني، بل بالغ في وضع المساحيق على وجوهها، بهدف التجميل بالنسبة لمعسكر الأصدقاء، وبغرض التشويه غير المنطقي بالنسبة لقبيلة الإرهابيين، ومن بينهم بالطبع شخصية البطل الرئيسي للفيلم، رغم أن أفعال الإرهابيين في حد ذاتها كافية، ولا تحتاج إلى تشويه متعمد، إضافة إلى عدم امتلاك رؤية اجتماعية واقتصادية وسياسية، يجب ألا يخلو منها عمل كهذا..
أو ربما اضطر الكاتب إلى حجبها، خضوعا للجهة المشرفة على الفيلم، ولذلك عاش النموذج الأول، باعتباره من أفضل الأعمال الفنية التي ناقشت ظاهرة الإرهاب، بينما ظل النموذج الثاني مجرد عمل دعائي، قد يبث رسالة عكسية للهدف الذي أنتج من أجله، فترى البسطاء يشاهدون الفيلم، وقد يتعاطفون مع الإرهابي الذي يتمسك بدينه –من وجهة نظرهم- بينما يكرهون تلك الأسرة المتحررة، التي يشرب ابنها الخمر، وتعمل ابنتها في الإعلانات وترتدي الشورت مع الغرباء!
نعود في النهاية إلى دراما رمضان، ونسأل هل تستطيع تلك الدراما أن تهزم الإرهاب، أو على الأقل تحاصره، وتسهم في تجفيف منابعه الفكرية؟ والأمر لا تتطلب منها سوى الإجابة على سؤال واحد: هل قدمت تلك الدراما طرحا فكريا وسياسيا موضوعيا على طريقة "طيور الظلام"، أم أنها اختارت مدرسة فيلم "الإرهابي" لتنضم إليها؟