أوجيني ولياليها
لم تكن مصر الأربعينيات مدينة أفلاطون الفاضلة، ولا كانت وطنًا مثاليًّا، بل كانت مجتمعًا طبقيًّا لا يخلو من عنصرية، تركزت فيه الثروة -كالعادة- بيد القلة، بينما عاش فقراؤه يكافحون -مثلما يفعلون الآن وفي كل عصر- من أجل أحلامهم البسيطة، لكن على الرغم من كل ذلك، كانت مصر وطنًا نظيفًا، تعيش طبقته الأرستقراطية حياتها المرفهة.
دون أن يكون من أبناء هذه الطبقة، رجل أعمال كون ثروته من تجارة المخدرات، أو استيراد السلع الفاسدة، أو الاستيلاء على أموال البنوك، ويتعايش فقراؤه مع فقرهم، لكنهم -رغم ضيق الحال- لم يفقدوا إنسانيتهم، ولم يتخلوا أبدًا عن قيم الخير والجمال، ومبادئ الأخلاق الرفيعة، كان تعبير "أولاد الأصول" ليس حكرًا على من يمتلك المال، ولم يكن الفقير بالضرورة بذيئًا، أو وقحًا، أو جاهلاً، أو ناقمًا.
القصور الفاخرة كانت لأهلها الأثرياء، لكن المناطق الفقيرة لم تكن مرتعًا لتجار المخدرات والمدمنين، ولا كانت شوارعها مقالب للقمامة، كانت الجريمة حاضرة، لكن من النادر أن تجد في تلك الفترة، شابًا يقتل أمه، أو أسرة فقيرة تبيع ابنتها -بالمعنى الحرفي لفعل البيع- لأثرياء الخليج.
البلطجة كانت موجودة، لكنها لم تصل إلى حد اقتحام منازل الناس وإحراقها، أو اغتصاب النساء في الشوارع (حادث اغتصاب فتاة في ميدان العتبة في التسعينيات نموذجًا)، الخيانة الزوجية لم تكن غائبة، لكن ليس إلى حد أن تصبح جرائم القتل بسبب الخيانة الزوجية خبرًا روتينيًّا في الصحف وأن تحتل القاهرة المركز الأول في ذلك، كان الناس يتزوجون، ويطلقون، لكن لم تكن الإحصائيات تؤكد أن هناك حالة طلاق تقع كل 4 دقائق مثلما حدث في عام 2017.
ووفقًا لدراسة نشرها موقع اليوم السابع فإن نسبة الطلاق ارتفعت خلال نصف القرن الماضي من 7% إلى 40%، فهل بعد كل هذه التغيرات الدرامية يصح أن نتهم من يقارنون بين مصر الآن، ومصر الأربعينيات بأنهم مصابون بـ"النوستالجيا"، أو الحنين المرضي إلى الماضي؟
وإذا كان هذا تفسيرنا لمن يقارنون بين وطنهم حاليًا، ونفس الوطن منذ 80 عامًا، فما هو تفسيرنا لمن استبد بهم الحنين إلى مصر مبارك؟ فحملوا نجله علاء على الأكتاف في مسجد الحسين، وهم يتمنون ركوب آلة زمن بسيطة قادرة على إعادتهم إلى ما قبل السنوات العشر الأخيرة؟ هل هانت "النوستالجيا" إلى هذا الحد، فأصبح المصابون بها يتمنون العودة عشر سنوات - فقط - إلى الوراء؟
لهذا ولأسباب أخرى كثيرة لا تتسع المساحة لشرحها، هرب كثير من المصريين -وأنا منهم- من دراما العنف والقتل والإرهاب والدم، إلى مسلسل "ليالي أوجيني"، الذي يحكي قصة بسيطة، تدور في مدينة بور سعيد خلال حقبة الأربعينيات، فاعتبر المشاهدون المرضى -أمثالي- وقت بث المسلسل، فترة للراحة والتقاط الأنفاس.
يستمتعون فيها برؤية شوارع نظيفة، وبيوت -رغم فقر أصحابها- أنيقة، يتفاعلون مع أبطال بعضهم طيب القلب، لكنك لا تعتبره ساذجًا، حيث لم تكن طيبة القلب وقتها قد أصبحت مرادفًا «للعبط والهبل»، وبعضهم أشرار لكنك تتفهم دوافعهم وتلتمس لهم العذر، ليس تضامنًا مع شرورهم أو أخطائهم، ولكن لأنهم لم يفقدوا إنسانيتهم، بحكم أنهم عاشوا فترة ما قبل تآكل إنسانية المصريين.
يستحق فريق عمل "ليالي أوجيني" جميعهم إشادة تليق بجهدهم، وفي مقدمتهم المؤلفتان، سماء أحمد عبد الخالق، وإنجي القاسم، على رسمهم الدقيق والإنساني للشخصيات، والاهتمام بتفاصيل المكان واستعادة مصر الأربعينيات بكل جمالها وبهائها ورونقها، يدعم ذلك بالطبع ديكور يحيى علام الذي نقلنا إلى تلك الحقبة التاريخية ببراعة، والملابس التي صممتها ياسمين القاضي.
أما الأبطال فهم في مباراة حقيقية، بدايةً من النجم التونسي ظافر العابدين، والرقيقة أمينة خليل، ومرورًا بإنجي المقدم، واللبنانية كارمن بصيبص، والاكتشاف المبهر -بالنسبة لي على الأقل- أسماء أبو اليزيد، تمثيلاً وغناءً، أما المخرج هاني خليفة، فهو المايسترو دائمًا في كل أعماله.
شكرًا لكم صناع "ليالي أوجيني"، ليس على جهدكم فقط، ولكن على إيمانكم بأن الفن -في المقام الأول- متعة، ولأنكم ما زلتم تدركون أن في مصر مشاهدون -ما زالوا على قيد الحياة- يهربون من دراما الدم، والرصاص، والفتوات الذين يرغمون خصومهم على ارتداء قمصان النوم، إلى أعمال ناعمة ورقيقة، نحب إنسانيتها رغم بساطة قصتها، ونتفاعل مع أبطالها، رغم هشاشة صراعاتهم، والأهم من ذلك أننا نمارس "النوستالجيا" كما نشاء، فنرى معكم مصر التي نحبها، وقت أن كانت فقيرة، لكنها لم تكن عشوائية.