رئيس التحرير
عصام كامل

طفولة الفكر ومُعاناة النخبة


الدنيا بالنسبة للطفل، هى تلك التى تدور فى فُلكه فقط. تلك الدنيا تتجسد فيه وفى تفسيراته وفهمه لها ولا دنيا سواها بالنسبة له!! وكل ما دونها سيئ أو خاين أو كافر أو عدو أو رجعى أو مُتخلف. فيصبح الشخص خصم، طالما لا يفعل ما أفعله أنا أو لا يرى الدنيا كما أراها أنا أو لا يُفسر الكتاب كما رأيت نصوصه أنا!! تلك نظرة الطفل وهى "الأنا العليا" فى الناضجين وإن كانوا مجموعات مُغلقة. وتلك للأسف أيضًا، هى نظرة الكثيرين ممن يحيون فى دول العالم الثالث ومن ضمنها مصر، لكل من لا يرى رؤيتهم من منطلق الإختلاف الحضارى والثقافى والفكرى، وبغض النظر عن توجهاتهم أو إنتمائاتهم الفكرية!!


إن اختلافنا، هو الطبيعة البشرية التى أنعم بها علينا الخالق، ويكمُن الرُقى الفكرى فى قدرتنا على تفهم هذا الاختلاف والتعايش معه بسلام، طالما ذاك المُختلف يحترم إرادتنا أيضًا فى استمرار ذاك الاختلاف وفقًا لتجاربنا المُغايرة فى النظر إلى الأشياء والمعانى المحيطة. أما أن نتعرض له ونسبهُ ونبحث عن كل ما يجعل منه شيطان ووحش، فتلك تكون وقتها، تعبير عن طفولة الفكر وتصيد للأخطاء، حيث كل البشر خطائين وليسو بشياطين!!

ومن غرائب شئون الخلق، أن الأطفال "فكرًا" فى مصر، هم بالأساس من النخبة، ممن وضعوا حولهم سياج يعزل أبراجهم العاجية عن فكر تجارب تُراب الوطن، فتشبثوا برؤية الغرب أو الشرق، وحلقوا بعيدًا عن هذا الوطن، فى ليبرالية غربية أو إشتراكية شرقية، بعيدًا عن فكر الفلاح المصرى البسيط الذى امتلك الأيديلوجية الوطنية، بأحسن صورها!!

لقد اندهش الكثير من أعضاء تلك النُخبة المُحلقة بعيدًا عن أرض هذا الوطن، حينما خرج أصحاب الدقون من جحورهم، وفقًا لشعار الحرية الذى نادت به ما أُطلق عليه إعلاميًا "ثورة 25 يناير"، ولقد إندهشت أنا لإندهاشهم، لأننى إكتشفت أنهم لم يكونوا يحيون على أرض مصر، لأنهم كانوا يظنون أنهم وفكرهم معهم، الوحيدون النامون على تلك الأرض!!

واندهشت لأنهم يكرهون "بُلدانًا بأكملها" وليس فكرًا مُلتصق بها فقط، مثلما يتكلمون مثلًا عن السعودية وليس مجرد عن الوهابية. إن السعودية تلك، هى التى بها ليبراليين ويساريين حقيقيين، مشتبكين مع تراب وطنهم وثقافته وتجربته المخالفة للتجربة المصرية (فمنذ متى اتفقت التجارب الشاملة للبُلدان؟!). والسعودية بها أيضًا، شيوخًا معتدلين وشيوخًا متطرفين، وبكل بلد حلوه ومُره!!

إن هؤلاء البعض، يقرأون نُسخة واحدة من التاريخ، ويبدو أنهم لا يدركون أن هناك تواريخ عدة متوازية، سواء كانت رسمية وغير رسمية. إنهم ينظرون نظرات دونية لكل من عاداهم، لأنهم نازيون، وليس منهم ليبرالى أو يسارى بحق، إلا اسمًا. وهم يمضون وراء أفكار غريبة، عن غرس هذه الأرض، تمامًا مثل المتأسلمون، ممن يريدون نُسخة من بلاد غريبة عنا، ولا يرون فى تلك البلاد البعيدة، من يتمرد فيها على تلك النُسخة، والتى يريدون تطبيقها من ماضى سحيق لا يتلامس حتى مع الواقع الحالى، لمكان نشأتها!!

إن خطوط الفصل بين ما يضر وما ينفع أى مجتمع، ليست خطوطًا جامدة، ولا هى مرسومة، وفقا لرؤية الفكر أو النهج الواحد. إنما هى مصنوعة بمرونة التاريخ والمناهج المتعددة، وهى ليست بلون دينى أو أيديلوجى أو عرقى، وإنما هى بلون إنسانى، يجمع ولا يُفرق، مُحترمًا التجارب المختلفة، ولا يستهجن الكامل، دون تقسيم وتوضيح لما يمكنه أن ينفع وما يُمكنه أن يضُر!!

إن النظرة الشاملة للأشياء، لهى نظرة طفولية، يجب التخلص منها، لبناء تنمية وتقدم حقيقى لمصر، بعيدًا عن الفكر الثورى المتحمس والمندفع دونما نضوج ليرى الدنيا بتعدد ألوانها وحضاراتها وثقافاتها، والتعلم من المختلف، لربما يؤخذ منه ما يُفيد!!

لقد تعلمت كليبرالى، أن أكون بالقرب من الجميع، وأن ألفظ فقط ما يُعادى ثقافتى الوطنية بتروى القارئ وبتقبل النقد، دونما شمول فى النظرة، ودونما إفتراض صحة كل مواقفى، لأن الإستعلاء ليس من الفكر أو العلم بمكان. فنحن نتعلم من المولد حتى الممات، وليس تجهيل الآخر أو تخوينه ما لم يثبت عليه ذلك فعلًا، من العلم بمكان!!

وتبقى مصر أولًا دولة مدنية.
الجريدة الرسمية