أين نحن من «معارك» مهاتير؟
أذهل رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد العالم في الماضي والحاضر، ففي الماضي أسس ماليزيا الحديثة، وحولها من دولة مغمورة إلى أحد نمور الصناعات واقتصادات جنوب شرق آسيا القوية، وفي الحاضر عاد إلى الحكم في عمر 92 عاما بقيادة ائتلاف المعارضة، ليخوض معركته الأخيرة لإنقاذ ماليزيا، بعد أن استشرى فيها الفساد، ورأى ما بناه سنوات ينهار أمام عينيه.
أوجز مهاتير مهمته الجديدة في الحكم برسالة بليغة مؤثرة بعنوان "معركتي الأخيرة" أبرز ما فيها "حين أغلق عيني أرى مواطني ماليزيا تُساء معاملتهم، وحقوق الجيل الصاعد تُسرَق من قبل أيادي الجشع التي يقودها الشيطان، وأنا لست من النوع الذي يلتزم الصمت ويجلس مكتوف اليدين..
أشكر الله أن أطال عمري حتى بلغت 93 سنة وما زلت أقف قويًّا وبصحة، قادِرًا على التركيز في التفكير وبحيويّة لأُواجه معركتي الأخيرة، وأن أحمي حقوق الشعب وأطيح بالمذنبين، وبعد هذا أدعو أن أغلق عينيي وبالي مرتاح، لأن تقابل روحي خالقي بأمان".
حين تولى الطبيب مهاتير محمد رئاسة وزراء ماليزيا مطلع الثمانينات، كانت دولة زراعية بدائية يعيش أكثر من نصف شعبها تحت خط الفقر، فحولها بخطط واعدة أذهلت العالم إلى دولة صناعية متقدمة تَضاعف معها دخل الماليزي إلى سبعة أضعاف، وانخفضت نسبة من هم تحت خط الفقر إلى أقل من 5% بعد أن كانت أكثر من 50%.
عرف مهاتير خلال فترة حكمه البالغة 22 عاما بقبضته الحديدية، وكان دكتاتورا، لم يتحمل المعارضة وقيد حرية التعبير وسجن خصومه السياسيين، حتى يتفرغ للبناء والتعمير وتنفيذ خطط التنمية، ونجح في جعل ماليزيا واحدة من أحدث الدول الصناعية في العالم فنال لقب "أبو ماليزيا الحديثة"، بعد نشره الجسور والطرق السريعة الواسعة في مختلف أرجاء ماليزيا، وتُوجها بعاصمة إدارية جديدة وبناء برجي "بتروناس" أعلى مبنى في العالم آنذاك، فضلا عن جميع الصناعات.
يقول "مهاتير" إنه على المستوى الشخصي "مسلم شديد التدين" لكنه "علماني" في الحكم، أي أنه لا يميز بين فئات الشعب على أساس الدين أو العرق أو المهنة، فالعدالة أساس حكمه في بلد متعدد الأديان والأعراق والأجناس.
بجانب العدالة والبناء اعتمد مهاتير في نهضة ماليزيا على التعليم وبه صنع نموذجا تحاكيه جميع الدول الساعية إلى النماء.
ومما يذكر عن اهتمامه بالتعليم والعلماء أن أحد أبناء ماليزيا أصبح عالما كبيرا في تخصص مهم باليابان، فسافر مهاتير بنفسه إلى اليابان ولم يعد إلى ماليزيا إلا ومعه هذا العالم على متن الطائرة الرئاسية لكي يستفيد من علمه وخبرته في نهضة ماليزيا.
بعد 22 عاما من الحكم الناجح حقق مهاتير ما تمنى لبلده، وتخلى عن السلطة، مكتفيا بدور استشاري لمن يتولى رئاسة الوزراء من بعده، وتفرغ لتوثيق تجربته الملهمة حتى تستفيد منها الأجيال الجديدة.
خاض مهاتير معارك كثيرة خرج منها جميعا منتصرا، وتخلى طوعا عن السلطة بعد أن حقق معجزة حقيقية في ماليزيا ونموذج تستلهمه عشرات الدول، ورغم تقاعده لم تنحسر الأضواء عن مهاتير وظل قريبا من نبض الشارع، واقترب أكثر فأكثر من المعارضة بعد تفشي الفساد وتغلغله في الدولة، والغريب أن الأحزاب المعارضة لحكمه الدكتاتوري هي التي استنجدت به قبل عامين وهو في التسعين من عمره للعودة إلى الحكم لإنقاذ ماليزيا، فلبى مهاتير نداء الشعب والمعارضة..
استقال من الحزب الحاكم وتخلى عن مناصبه الاستشارية بالحكومة، وعاد للعمل السياسي النشط في صفوف المعارضة، متعهدا بالإطاحة برئيس الوزراء نجيب عبد الرزاق بعد تفشي الفساد والفضائح المالية المتعلقة بالصندوق الحكومي للاستثمار، لتصحيح ما اعتبره "أكبر غلطة في حياتي"، ويعني بها تخليه عن الحكم.
خلال الحملة الانتخابية تقبل مهاتير فكرة ارتكابه أخطاء خلال حكمه السابق، وكتب تدوينة "إن الناس والإعلام لا يكفون عن الإشارة إلى أنني ترأست حكومة سلطوية لمدة 22 عاما.. وبالنظر إلى الوراء، أدرك الآن لماذا كانوا يصفونني بالدكتاتور، لقد قمت بأمور كثيرة تتسم بالدكتاتورية".
انتصر "تحالف الأمل" المعارض بقيادة مهاتير في الانتخابات وحصل على الأغلبية البرلمانية المطلوبة لحكم البلاد، وعاد مهاتير رئيسا للوزراء مناضلا في معركته الأخيرة ضد الفساد الذي ينخر في ماليزيا.
لم يضيع مهاتير لحظة وما أن أدى اليمين الدستورية رئيسا للوزراء، حتى بدأ حملة القضاء على الفساد بضرب الرءوس وكبار الفاسدين، شن حملة اعتقالاتٌ واسعة ومنعٌ كبار المسئولين وأعضاء الحكومة السابقة من السفر إلى أن يثبت عدم تورطهم في الفساد، ثم أمر بإلغاء الضرائب المفروضة على السلع والخدمات البالغ نسبتها 6%. كما بدأ خطوات استرداد مليارات الدولارات التي جرى تحويلها عبر "غسيل أموال" إلى دول خارجية أبرزها الولايات المتحدة وسويسرا.
هذه بعض معارك "الدكتاتور" مهاتير محمد.. أسس نهضة ماليزيا الحديثة، وعاد في التسعين من عمره ليخلصها من فساد المسئولين والمتنفذين، ويخفف الأعباء عن الشعب.. أما عندنا فالأمر على النقيض، ترعى الحكومة المتنفذين ولا تقترب من كبار الفاسدين و"تطحن" الشعب بالأعباء والضرائب وزيادات لا حصر لها في أسعار كل شئ وإغراق البلد في القروض بذريعة الإصلاح الاقتصادي بعد فشلها في تنمية الموارد وجذب الإستثمارات...