رئيس التحرير
عصام كامل

آخر ما تبقى من ذكريات «جيل الثمانينيات».. ملاهي «السندباد» تودع زوارها

فيتو

مع دقات السابعة صباحا، حين تنسج أشعة الشمس خيوطها الأولى، يتوجه الستيني "عبد الحميد عبد الفتاح" من منزله بمزلقان العشرين في حي عين شمس، صوب شارع مصر للطيران بحي النزهة الجديدة، حيث تقبع بقايا ألعاب ملاهي السندباد، بعد عملية هدم أتت على الأخضر واليابس، وأبقت على بعض "الخردة" المتناثرة هنا وهناك.


الملاهي الأشهر في مصر خلال الـ40 عاما الأخيرة باتت تحت حراسة عبد الحميد مدة 12 ساعة يوميا، يرتب سريره الصغير ويملأ أواني المياه الفخارية موزعا إياها في أرجاء المساحة الخربة الممتدة أمامه، "المكان من يوم ما اتهد بقى مأوى للعصافير والغربان، أنا من وقت الصيف ما جه حريص أحط لهم مياه بشكل يومي".


البداية كانت في خريف عام 2016، حينما فوجئ عبد الحميد الذي عمل على مدار أكثر من خمسة وعشرين عاما ضمن طاقم عمال النظافة بالملاهي، بأحد زملاء العمل يخبره بَرغبتهم في اصطحابه إلى الملاهي التي انقطع عن زيارته مدة عامين منذ أن تقاعد في صيف 2014: "أنا عمري كله قضيته في السندباد هنا وأجمل ذكرياتي كانت فيها".

مخزون الذكريات والأيام الخوالي التي قضاها داخل أسوار "السندباد" دفعت عبد الحميد لقبول عرض زملائه والعودة للملاهي مرة أخرى رغم تقدمه في السن، لم يكن يعلم أن وظيفته هذه المرة لن تكون تنظيف الألعاب خلال ساعات النهار، أو تهيئتها بعد انتهاء فقرات إحدى الرحلات المدرسية، "قالولي هاتيجي تشتغل حارس للألعاب وبرج الكهربا في الملاهي لحد ما شركة البناء اللي اشترت أرض الملاهي من ورثة المالك أستاذ محمد سعيد الله يرحمه، تستلم الأرض".

6300 متر مربع، هي مساحة الأرض التي كانت تحتضن أكبر مجمع ملاهي ترفيهية بالقاهرة، أكثر من 25 لعبة، بين المخصصة للأطفال في الأعمار الأولى مرورا بالمراهقين حتى الشباب وكبار السن، فمهما كانت المرحلة العمرية التي ينتمي إليها الفرد، ما إن يعبر من البوابة الرئيسية التي اتخذت فم السندباد البحري شكلا لها، حتى يعود بعمره عشرات السنين للوراء، "محدش كان بييجي هنا مهما كان مركزه وسنه إلا ويرمي همومه على الباب ويدخل، لدرجة إن مرة دكتور في جامعة الزقازيق كان دائم المجيء هنا، كان يقول لي أنا باجي هنا أغسل همومي وأرجع عيل صغير تاني".

يتحدث عبد الحميد بينما تتعلق عينه بإحدى الألعاب الكهربائية التي تراكم عليها الغبار، فلا يظهر منها إلا القليل مما يدل على معالمها: "دي كانت لعبة الفنجان كنت بحب أتفرج على الأطفال وهما فيها وبيطوحوا رأسهم للوراء وضحكتهم صوتها يجيب آخر الشارع".

منذ عام 1992 لم يتخلف عبد الحميد يوما عن موعده، ليكن ضمن أوائل الحضور من طاقم العمل المكون من 500 عامل وعاملة، يجوب المدينة بكاملها، يجمع القمامة وينظف ما تطاله يداه من بقايا الطعام العالقة بهذه اللعبة أو تلك.

ما زالت حقيبة ذاكرة عبد الحميد التي طالتها التجاعيد كما طالت ملامح وجهه، تختزن المزيد من الحكايات عن ليالي ملاهي النزهة الجديدة أو ملاهي أرض المطار، أو كما سميت بـ"السندباد"، فلا ينسى إحدى ليالي صيف عام 1996، حينما أبلغهم مدير الملاهي بسرعة تنظيف الألعاب والأرضية والكافيهات، لأن الفنانة نادية الجندي والفنان عزت أبو عوف على وصول لتصوير أحد مشاهد فيلمهما الجديد "اغتيال": "يومها جرينا مسحنا الألعاب وغسلنا بعضها وهيئنا المدينة بالكامل، ووقت التصوير عملوا كردون وأوقفونا ورائه نتفرج على عزت أبو عوف وهو بيطارد نادية الجندي، وبيدخلوا بيت الرعب، وأجمل ما في المشهد ـنه كان تلقائيت لأن الناس مكنتش تعرف أنه تصوير وتفاعلت وصرخت وعملت جو للمشهد".

على الجانب الآخر من شارع مصر للطيران، وقف محمود رشاد، حارس إحدى العقارات المقابلة لمدينة الملاهي، يتتبع بقايا ذكريات أيامه الأولى في القاهرة، بعد تركه لمسقط رأسه، إحدى قرى محافظة كفر الشيخ، فمنذ اليوم الأول له، اقتطع جزءا من يوميته، لدخول السندباد: "التذكرة وقتها كانت بـ2 جنيه، قبل ما ترتفع في آخر أيامها وتصل لخمسة جنيهات، كنت بحوش وأدخلها كل أسبوع، ولما تزوجت وخلفت دخلت أولادي فيها".

يتفحص محمود وجه ابنته الصغرى هبة 12 سنة، مستعيدا ذكرى ليلة عيد الفطر المبارك من كل عام، يوم كان يصطحب أسرته الصغيرة إلى الداخل، تتنفس الأسرة البسيطة بهجة الحياة الغائبة طوال العام، "الملاهي دي كانت روح ونبض الحي كله، النزهة الجديدة ماتت بعد هدم السندباد".

"السندباد" بالنسبة لمحمود لم تكن وسيلة للتنفيس والترفيه فقط، فخلال فصل الصيف وعلى مدار خمسة عشر عاما كان شارع الطيران يعج بالزوار من أبناء الخليج والدول العربية، فضلا عن جميع أبناء محافظات الجمهورية، كانت المدينة تدر عليه ربحا يوميا لا انقطاع له، "أنا أصلا كنت ببيع ذرة مشوي وتين شوكي، بسبب الملاهي دي كنت بكسب في اليوم أكثر من 500 جنيه، عيشي اتقطع من يوم ما اتقفلت من سنتين، وفي رمضان كنت بشارك في عمل سحور وإفطار الخيم الرمضانية الخاصة بالمدينة وبيطلعي قرش عال".


"محمد الكارم" 40 عاما، الأردني الذي عاش بحي مصر الجديدة لأكثر من عشرين عاما، حتى أتقن اللهجة المصرية جيدا، ما زالت أنفاسه تعلو وتهبط حينما يُذكر اسم مدينة ملاهي السندباد، يتذكر أيام الجمعة خلال سنوات الدراسة الأولى، حينما كان يستيقظ على صوت أمه تخبره بسرعة الاستيقاظ وتجهيز الحقائب لقضاء اليوم في السندباد، الفرحة تتراقص في عينيه حتى هذه اللحظة، كما هو حال أبناء الثمانينيات والتسعينيات، ممن تركوا بصماتهم على ألعاب المدينة، "محدش من جيل الثمانينيات والتسعينيات مقضاش طفولته هنا، أنا لسه فاكر حفلات عمرو دياب في العيد الصغير والشلالات ولعبة الساقية وعربات التصادم، لسه فاكر فرحة إخوتي وإحنا بنعبر فم السندباد، كل ذكرى جميلة بيحاولوا يمحوها من أذهاننا!".
الجريدة الرسمية