أن يحبك المصريون
أن يحبك المصريون، فتصبح مثلا أعلي للشاب، وفارس الأحلام للفتاة، الابن البار لكل أسرة، تصير أنت الحلم لمن فاتهم قطار الأحلام، ووصلوا إلى خريف العمر، نقطة الضوء المبهرة في كهوف المحبطين، بوجودك يكسب المتفائلون بمستقبل هذا البلد نقطة لصالحهم، ويخسر أنصار نظرية "مفيش فايدة" رهانهم، أن يحبك المصريون فهذا يكفي ليحملوك فوق رؤوسهم، ويحفظوك في عيونهم، ويغطوك بجفونهم، أن يحبك المصريون فهذا كنز لو تعلمون عظيم..
لم يكن محمد صلاح أول من أهداه الله محبة المصريين، ولن يكون آخرهم، فقد فاز بعشقهم كثيرون، عرفوا سر "حجاب المحبة"، فدخلوا القلوب وتربعوا فيها، ومازالوا على وضعهم حتى بعد رحليهم بعقود، في السياسة ما زال عبدالناصر هو الزعيم، حتى بعد وفاته بنصف قرن، أحبه المصريون وهتفوا باسمه، غفروا له أخطاءه القاتلة، رفضوا قراره بالتنحي رغم اعترافه بالهزيمة، وخرجوا في جنازته بالملايين يشيعونه كما الأطفال اليتامى، أحبوه وهو المهزوم، وبخلوا بحبهم على خليفته المنتصر أنور السادات!
في الغناء، مازالت أم كلثوم هي "الست"، واللقب يحمل من المعاني أكبر بكثير من مدلوله اللغوي، فهي "الهانم" بقرار شعبي، مطربة القلوب التي نقلت الغناء من مرحلة "أرخي الستارة اللي في ريحنا.. أحسن جيرانك تجرحنا" و"يا سمبتيك خالص يا مهندم.. اسمح وزورني الليلة يا فندم"، إلى "أقبل الليل والأطلال وهذه ليلتي"..
في التمثيل يظل أحمد زكي هو النموذج الذي أحبه الناس، لأنه يشبههم كواحد منهم، ومازالت محاولات استنساخه مستمرة، أثمرت تلك المحاولات بالفعل عن ممثلين أصبحوا مشهورين، لكنهم لم يدخلوا قلوب المصريين.. فهل هناك سر وراء المحبة التي يختار المصريون من يستحقها، ومن يعيش ويموت دون أن ينال جزءًا منها؟ هل هناك وصفة لـ"حجاب محبة" يأسر قلوب أهل مصر، ويضمن لصاحبه أن يصبح المثل والقدوة للشاب، وفارس الأحلام للفتاة، الابن البار للشيوخ، والطيف الدائم في أحلام المصريين على اختلاف طبقاتهم، من الطبيب والمهندس والكاتب، إلى العامل أو الفلاح الذي لا يفك الخط؟
الوصفة- كما تبدو لي- تتطلب في البدء أن تكون "صاحب إنجاز"، موهوبا في مجالك، "شاطر" في منطقتك بلغة الشارع، لم تصل لنجاحك بوساطة هذا أو ذاك، وكل النماذج التي أشرت إليها، ينطبق عليها هذا الشرط، فهل من زعيم سوي عبدالناصر؟، وهل هناك "ست" غير أم كلثوم؟ وهل يختلف اثنان على موهبة أحمد زكي؟
ومحمد صلاح -محور هذا المقال- موهوب بالفطرة، وفوق ذلك كاد أن يصبح واحدا من ضحايا مسئولي قتل المواهب في بلادنا، ولو استسلم لمن اعتبروه - في بداية رحلته- غير لائق للالتحاق بنادي الزمالك، لما وصل لمكانته الحالية، وهذا وحده يدعو الناس للتعاطف معه، ربما لأنه قدم لهم من دون قصد دليلا على اختلال المعايير في مصر، المعايير التي ترفض الموهوب، وتقبل البليد، تٌقصي الفنان الحقيقي، لصالح أنصاف الموهوبين!
ولكن هل يكفي الإنجاز وحده ليصنع "حجاب المحبة"؟ هل كان عبدالناصر سيتربع في القلوب لمجرد أنه أنشأ السد العالي، وأسس المصانع، وأمم أموال الإقطاعيين؟ وهل كانت أم كلثوم ستظل هي "الست" لأنها اختارت طريق الفن الحقيقي، وحولت قصائد الشعراء العظام إلى أغان يطرب لها المثقف والأمي؟ ولماذا يظل أحمد زكي متربعا في قلوب المصريين، رغم أن العديد من أبناء جيله، والأجيال التي سبقته، قدموا فنا لا يقل قيمة عما قدمه في السينما؟
الإجابة على هذه الأسئلة تقودنا إلى أن ثمة شيئا آخر -غير الإنجاز- يلزمك لكي تستولي على قلوب المصريين، إنه الصدق، أن تكون صادقا معهم، لا تتعالي عليهم، أن تشبههم في الفرح وفي الأحزان، ويا حبذا لو كنت خفيف الظل مثلهم، أن يشعر الناس بأن جمع الثروة ليس هدفك الأول، وحتى لو أصبحت مليونيرا، تظل كما أنت بسيطا مثلهم، فلا تفاجئهم بصور سياراتك الفارهة، وقصورك الفخمة، أن تكون فقيرا فلا مشكلة في ذلك، المشكلة دائما في أن تكون ثريا متواضعا، مليونيرا محترما، تحب الفقراء الذين منحوك قلوبهم، فلا تتعالي عليهم، ولا تستفزهم بأدلة انتقالك من طبقة إلى أخرى!
لقد أدهشني- وأنا غير مهتم في الأصل بكرة القدم- أن غالبية المصريين الذين شاهدوا محمد صلاح يبكي بعد اعتداء لاعب ريـال مدريد عليه، لم يتأثروا بخروجه من المباراة، ولا باحتمال غيابه عن كأس العالم، بقدر ما تأثروا لبكائه، لألمه، لخوفه من ضياع حلمه، هو الحب إذن، لا مباريات ولا غيره !
الرابط بين صلاح والمصريين، حجاب محبة، سره الأول أن الولد شاطر وموهوب، وسره الثاني أنه رغم شهرته المدوية، ما زال فلاحا مثل أهله، زوجته التي سخر بعض المتنطعين منها، ما زالت تشبه بناتنا وأخواتنا، استطاع الولد أن يعيد المصريين إلى زمن الأحلام، جمعهم - رغم اختلافاتهم الشائكة- حول هدف يحلمون بالوصول إليه..
لذلك سيظل في قلوبهم، حتى بعد أن يتقدم به العمر وتنتهي مسيرته الرياضية، لأنه عرف سر الوصفة، حجاب المحبة، رسائل القلب إلى القلب، التي تجعل المصريين يحملونك فوق الأعناق، يسهرون للدعاء على من يؤذيك، يبتهلون إلى الله لكي يشفيك، ولو تطلب الأمر أن يموتوا من أجلك، سيفعلون دون تردد!