فـواللهِ ما أنصفناهم
"إنَّ منْ إجلالِ اللهِ إكرامَ ذي الشَّيبةِ المُسلم....".. نصًًّا منْ حديثِ الرسولِ الكريمِ، في الحثِّ على إكرامِ الكبارِ، ومنْ تقدمتْ بهم السنونَ، وعصفَ بهم الزمنُ. المجتمعُ المسلمُ – نظريًا- قائمٌ على البرِّ والتعاونِ والرحمةِ والعرفانِ، وليسَ على الإثمِ والأنانيةِ والقسوةِ والنكرانِ. التطبيقُ العملىُّ يثبتُ أننا نعاملُ هذهِ الفئةَ بما يتصادمُ معَ القيمِ الدينيةِ والمبادئِ الإنسانيةِ، وبما لا يتناسبُ معَ واقعِهم الجديدِ.
مواقعُ التواصلِ الاجتماعىِّ تكتظُّ بصورٍ ومنشوراتٍ تعكسُ الظروفَ السيئة التي يعيشُها قطاعٌ كبيرٌ منْ المُسنينَ، الذينَ بذلوا عمرَهم في خدمةِ وطنِهم، كلٌّ في موقعِه، وبحسبِ ما خطَّتْ له الأقدارُ. بعضُهم كان يتولَّى مناصبَ مرموقة، ولكنه فوجئ بعد إحالتِه للتقاعد بأن راتبَه الذي كان يكفيهِ بالكادِ ويسترُه، تراجعَ عدةَ خُطواتٍ إلى الخلفِ، ولم يعدْ له قيمةٌ في زمنِ التعويمِ وتذكرةِ مترو الأنفاقِ ذاتِ الجُنيهاتِ السبعة، وبعضُهم يتحدثُ عنْ عدمِ قدرتِه على تحمُّلِ نفقاتِ علاجِه، وكثيرٌ منهم يروى بمرارة سوءَ المعاملةِ في سبيلِ الحصولِ على معاشِه الزهيدِ، وجميعُهم يتشاركون في الإحساسِ بألم الجحودِ والنكرانِ.
المجتمعاتُ التي تجحدُ كبارَها مجتمعاتٌ بلا ضميرٍ أو إنسانيةٍ وتعانى خللًا واضحًا في تركيبتِها. ومنْ يعيشُ في عنفوانِه اليومَ، سوفَ يكبرُ غدًا ويشيخً ويمرضُ، وما كانَ ربُّك نسيًَّا، فدوامُ الحالِ منْ المُحالِ، ولا حُزنَ يستمرُّ، ولا فرحَ يدومُ.
أيةُ نفسٍ سويَّةٍ تتألمُ حتمًا عندما تبصرُ ستينيًا أو سبعينيًا أو ثمانينيًا يتكففُ الناسَ حتى يسدَّ رمقَه أو يسترُ جسدَه أو يداوى سقمَه، إنه المشهدُ الأكثرُ قسوةً والأدنى إنسانيةً، الذي يصدمُنا يوميًا، ويعكسُ إلى أي حضيضٍ هبطنا. عمرُ بنُ الخطَّابِ – رضى اللهُ عنه- رغمَ ما كانَ بهِ منْ صلابةٍ، رقَّ قلبُه عندما وجدَ يهوديًا مُسنًَّا وضريرًا يطلبُ الصدقةَ، فأسقطَ عنه وعنْ أمثالِه الجزية، وأمرَ لهم براتبٍ مُنتظمٍ منْ بيتِ المالِ، وقالَ قولتَه التي تعكسُ جوهرَ الإسلامِ: " فواللهِ ما أنصفناهُ إذا أكلنا شبيبتَه ثمَّ نخذلُه عند الهِرَمِ".
إنَّ هذهِ الفئةَ التي يزيدُ عددُها في مصرَ على بضعةِ ملايين، لا تحتاجُ قراراتٍ فوقيةً تصدرُ منْ أبراجٍ عاجية، ولكنْ تحتاجُ ضمائرَ حيَّةً تشعرُ بحالِهم وواقعِهم الجديد، تتعاملُ معهم بامتنانٍ وعرفانٍ، وليسَ بغرورِ وتعالٍ، فكلُّ صغيرٍ سوفَ يكبرُ، والأيامُ دوَّارةُ، وكما تدينُ تُدانُ.