رئيس التحرير
عصام كامل

العاشر من رمضان.. والحرب على الإرهاب!


اليوم هو العاشر من رمضان.. من أعز وأعظم الأيام في الذاكرة الوطنية، يوم عبرت القوات المسلحة مياه قناة السويس، عبرت من الهزيمة إلى النصر، من الانكسار إلى الانتصار، عبرت قواتنا لبدء حرب تحرير الأرض المحتلة من العدو الصهيوني، اليوم هو الذكرى التي كلما جاءت استعاد فيها جيلي أعظم لحظات عاشها في حياته.


جيلي والأجيال التي سبقتنا عاشت أياما صعبة للغاية وللأسف لا يدرك معناها الحقيقي الأجيال التي جاءت بعد ذلك، شاهدنا نكسة يونيو 67 أطفالا، ورأينا الدموع في عيون الأهل والجيران والقادمين من مدن القناة في موكب حزين مؤلم هو خير شاهد على مدى جسامة الجريمة والنكسة في يونيو 67، كنا أطفالا هللنا مع الكبار مع تساقط الطائرات الصهيونية الوهمي في إعلامنا، وأيضا رأينا موكب الانكسار في وجوه المهجرين من مدن القناة..

العجيب في أيام الهزيمة وبعيدا عن فلسفة النخبة والسياسيين، حدثت أشياء من الشعب المصري تدعو للتفكير، حدثت تصرفات من الشعب بتلقائية دون تعليمات أو توجيهات، على الرغم أن سحابة الحزن التي كانت تملء السماء، إلا الجميع رفض الإعلان عن حزنه، وعاش حزنه داخله، لم يكن هناك قرية إلا وفقدت عددا من خيرة شبابها، استشهد من قريتي عددا من الجنود، المدهش أنهم جميعا دفنوا ليلا ولم تقام لهم عزاء من أهلهم ولا حتى شعر أحد أن هناك جنودا استشهدوا وكأن الأمر لم يكن..

يتم دفن الشهيد ليلا وفي الصباح يذهب أهله إلى الحقل للعمل، صورة مدهشة وتدعو للتفكير، كنت طفلا أرقب الجميع، والدي وهو لا تقوى ساقاه على حملة، لسانه وهو وسط كبار القرية وهو عاجز عن تبرير ما حدث، وكأطفال تجاوزنا العاشرة كنا نعرف الشباب المجند الذي سيحرر فلسطين، هكذا تعلمنا في المدرسة، وفي كلام والدي مع كبار البلد الذين يجتمعون كل ليلة عندنا، كنت أعرف أن المزين عم محمد الشاعر له أخ في الجيش، ذات يوم وهو يحلق لي سألته: أخبار أخوك إيه يا عم محمد!؟  قال: تعيش أنت.. أخويا راح مع اللي راحوا.. البركة في رجب أخويا الصغير!

قلت: لماذا لم تعلن وتقيم عزاء!؟ رد قائلا: عزاء إيه بس.. هانعمل عزاء؟ البلد كلها في عزاء!

لا تزال سحابة هذه الأيام أراها ولم تغادرني على الرغم الانتصار العاشر من رمضان -السادس من أكتوبر 73، وسط هذه السحب الحزينة استطاع أبطال الجيش المصري في عمل بطولي في موقعة رأس العش، بعد النكسة بأيام، ثم ضرب الطيران المصري عمق سيناء بعد شهور من النكسة وتم تدمير القطار الذي كان يحمل كل الذخائر التي استولى عليها العدو، تدمير المدمرة إيلات أكبر مدمرات البحرية الصهيونية، وتكررت البطولات في معركة الجزيرة الخضراء، وجزيرة شدوان، وتدمير ميناء إيلات 4 مرات بالسنة الحربية، وتدمير مطار بالقرب من العريش، والآلاف العمليات قبل وقف القتال في منتصف عام 70!..

الشيء الرائع أن الشعب المصري لم يشكو من شيء، وكان يقف في طابور الجمعيات الاستهلاكية برضا وينتظر يوم رد الاعتبار، ولم تتوقف عجلة البناء وتشييد المصانع، واكتمل بناء السد العالي في 23 يوليو 70، إننا نتذكر هذا اليوم في العاشر من رمضان الذي يعيدنا إلى أحلى وأعظم أيام مصر المعاصرة، محفور في وجدان كل مصري عاش اللحظة التاريخية، ونحن عائدون من المدرسة بمدينة طنطا، كنت في الصف الثاني الثانوي، وفي القطار سمعنا من يقول الحرب قامت!

كدت أقفز من شباك القطار لأسرع للوصول للبيت للتعرف على الأحداث، رأيت الوجوه تعبر عن نتائج مفرحة تسعد كل وطني وفرحنا وتوالت البيانات العسكرية معلنة عن انتصار الجيش على العدو الصهيوني، وبمناسبة ذكرى العاشر من رمضان أذكر قصة ربما كتبتها من قبل لكن إعادتها اليوم في غاية الأهمية، ففي الوقت الذي تحارب قواتنا الإرهاب في سيناء، يثار أحيانا أن أهل سيناء المصريين من بينهم خونة، ومثلما في كل المجتمعات يوجد الوطني وأيضا يوجد خونة..

وهناك تلميحات تشير إلى الخيانة في العديد مما يحدث ضد أبطالنا الذين يخوضون أشرس المعارك في تطهير سيناء من الإرهاب، اللهم وفقهم وانصرهم بكرمك وفضلك، أتذكر هنا قصة على لسان أحد علامات الصاعقة المصرية البارزة، أطال الله في عمره، البطل اللواء أركان حرب عبد الحميد خليفة الذي يقول: كانت مجموعتنا الأبرار وراء خطوط العدو يوم السادس من أكتوبر -العاشر من رمضان، الوجود في منطقة منطقة الزعفرانة التي تبعد عن جبهة القناة نحو مائة وسبعين كيلو مترا، الهدف أولا قطع طرق الإمداد للخطوط الأولى، ثانيا خلق جبهة ليست في حسابات العدو خاصة صعوبة وطبيعة الجبال تساعد رجال الصاعقة على الحركة وإرباك حركة العدو!

وبالفعل تمت خطوات العملية بنجاح هائل، لكن مع مرور الأيام انقطعت الصلة تماما بالقيادة، بعد إصابة جهاز الاتصال بقذيفة مباشرة، ثم إننا واجهنا مشكلة الحصول على الطعام، فما كان منا إلا القرار بالنزول من على الجبال إلى إحدى القرى ليلا، وكان يعرف أن الصهاينة لا يتحركون ليلا ويخشون دائما من مفاجآت الأبطال المصريين، وجدنا مخزن فعلا للدقيق والحبوب، أخذنا منه كميات قليلة جدا، وبصفتي قائد المجموعة، بعد إغلاق المخزن وضعت جزءا من بقايا مرتب أكتوبر كان لا يزال في جيبي، في قفل باب المخزن، على الرغم من أن الفلوس المصرية لا قيمة لها.

المفاجأة أن هذا التصرف البسيط جعل عددا من البدو يبحثون عنا، وأذكر منهم على بركات، وعندما التقيته، قدم منشورات باسم الجيش المصري إلى المقاتلين المصريين بضرورة قتل البدو الخونة قبل الصهاينة، وطبيعي هذه المنشورات كانت ضمن خطة العدو الصهيوني لخلق فجوة بين القوات المصرية وأهل سيناء في حالة وجودهم، والطريف أن التصرف البسيط بترك عدد من الجنيهات التي لا يمكن الاستفادة بها جعل أهالينا من بدو سيناء يسألون أنفسهم: كيف يتركون ثمن ما أخذوا وهم يريدون قتلنا؟

لماذا لم يأخذوا كميات كبيرة وتخريب الباقي طالما أنهم يريدون قتلنا؟ وعندما استطاع البدو الوصول لمجموعة الصاعقة، ودار حوار طويل، تعانق الأهل بعدها وتأكدوا أن حيلة الصهاينة لن تفرق بينهم، ولمدة 200 يوم خلف خطوط العدو، كان علي بركات وصبحي نصيري نصر وحسين عبده سليمان وعليان بركات (16 سنة) ومحمود بركات هم مصادر المعلومات التي كان نعتمد عليها، الأهم من هذا أن البطلة فاطمة راعية الأغنام زوجة علي بركات ومعها عليان بركات (16 سنة) كان هم همزة الوصل بيننا وهم يحضرون الطعام وأحيانا أسلحة من العدو وتم استخدامها!

يصمت اللواء خليفة ثم يقول: سألت هؤلاء الأبطال في إحدى المرات ألا تخشون من اكتشاف تعاونكم معنا من العدو الصهيوني!؟

ضحكوا جميعا ثم قالوا: سيتم جمع القبيلة كلها في الوادي وقتلنا جميعا رميا بالرصاص، ولعلمكم أن الجيش الصهيوني رصد مكافأة ضخمة لمن يرشد على عسكري مصري، ومضاعفة هذه المكافأة لو تم الإرشاد على ضابط، أما لو مجموعة مثلكم، فإن ليلة القدر ستفتح الخير الوفير!

ويقول علي بركات: لسنا أقل من منكم وطنية ولسنا أفضل من الشهداء الذين ندفنهم كل يوم كلنا فداء مصر!

هذه صورة وشهادة نعتز بها ويعتز بها كل مصري، وهي مهداة إلى كل خائن أو مدعي، فالأرض مصرية، والدماء واحدة، وفي ذكرى انتصار العاشر رمضان -السادس من أكتوبر نجدد العهد لمصر، وترابها أننا كلنا فداء تراب مصر، واللهم إننا ندعوك أن تعيد للمصريين روح الانتصار في العاشر من رمضان وبركات هذا الشهر الذي ارتبط دائما بالنصر.. وتحيا مصر.
الجريدة الرسمية