مترو الفقراء
جلس بجواري في "المترو" رجل أربعيني.. تحرك القطار ليبدأ الرجل في التقاط أنفاسه، كأنه خاض للتو حربًا قبل الوصول إلى العربة.. قطرات العرق تركت بصماتها على قميصه، ولسعات الشمس تضامنت مع متاعب الحياة لتعطي وجهه تجاعيد قاسية.. تزايدت أصوات عجلات المترو خلال الطريق لتغطي على همساته حول زيادة أسعار التذكرة..
انتبهت لحديثه الداخلي الذي فاض وتحول إلى صوت مسموع، لأكتشف أنه يقوم بحساب تكاليف مشواره اليومي الذي أضاف إليه مصاريف مواصلات أسرته ليقول بصوت يائس إن الزيادة الأخيرة في أسعار تذاكر المترو ستُكلفه شهريًا بضع مئات إضافية من الجنيهات، وهي تمثل عبئا ضخما على ميزانيته المتواضعة.
نزلت في محطتي وتركت الرجل الذي ظل طوال الطريق يُعيد حساباته لعله يجد منفذًا لتوفير المال.. ما أثار تفكيري هو معرفتنا جميعًا أهمية المشاركة في تكاليف الإصلاح الاقتصادي، لأننا نتمنى النهوض بالدولة لكن هناك تساؤلات يُصبح من الواجب التعرف على إجاباتها، لأن الهروب منها أشد جبنًا من مغادرة ساحة المعركة..
أولى التساؤلات تضع أمامنا حقيقة أن المترو مرفق عام لا بد أن يكون مدعومًا من ميزانية الدولة وليس المطلوب أبدًا تقديم خدماته بأسعار السوق، فإذا كانت الميزانية الحالية عاجزة عن الإيفاء بمتطلبات التشغيل فهل زيادة أسعار التذاكر هي الحل الوحيد لزيادة موارد المترو؟
ربما تكون الإجابة أن هناك اقتراحات أخرى يمكن أن تضخ أموالًا إضافية إلى موارد الدولة ومنها: وضع إعلانات على القطارات، وزيادة المساحات الإعلانية في المحطات، وتأجير المزيد من المحال، وبث إذاعة إعلانات صوتية داخل عربات المترو، وتخصيص عربات مميزة في كل قطار بأسعار أكبر، مما يؤدي لاجتذاب شريحة اجتماعية أخرى قادرة على تحمل سعر الخدمة المميزة..
وهذه مجرد اقتراحات أعرضها في المقال، فيما تمتلك مصر الكثير من العقول والخبرات المتخصصة في مجال النقل القادرة بالتالي على إعطاء حلول أكثر عملية لزيادة موارد المترو دون الاضطرار إلى المساس بأسعار التذاكر.
أما إذا كانت إجابة الاستفسار السابق أن الحل الوحيد والحتمي هو زيادة أسعار التذاكر وأنه لا مفر من ذلك.. فسيكون علينا طرح الاستفسار الثاني، وهو إذا كان مستوى الخدمة سيشهد تحسنًا بالتزامن مع الزيادة سواء في مستوى النظافة أو تشغيل التكييفات.. أيضًا هل سيكون هناك المزيد من القطارات لمنع التزاحم الشديد وحالات الاختناق في بعض الرحلات؟!
أستوعب جيدًا حتمية الإصلاح الاقتصادي وصعوبة التحديات التي نواجهها لكن نظرة من ذلك الرجل الأربعيني كانت أكثر صدقًا من عشرات التحليلات الاقتصادية، لأنها تؤكد أن هناك طبقات في مصر تعاني تمامًا ظروفا اقتصادية صعبة تجعلها غير قادرة على تحمل المزيد من الضغوط أو التضحيات، وبالتالي سيكون من واجب الدولة أن تطالب الأغنياء والشرائح الاجتماعية الأعلى بتحمل الجانب الأكبر من الأعباء المالية للإصلاح الاقتصادي بدلًا من الضغط على الفئات غير القادرة.. وعندما يشعر المواطن الفقير أن الطبقات الأغنى تتحمل معه فاتورة الإصلاح أعتقد أنه سيتحمل بدوره المزيد من التضحيات.