رئيس التحرير
عصام كامل

النرجسي الذي غضب من السادات وأغضبه.. كيف رأى كبار الكتاب يوسف إدريس

 يوسف إدريس
يوسف إدريس

لم يترك "يوسف إدريس"، عقل مفكر أو ناقد أو أديب كبير، إلا وطرقه بقوته وصخبه وثورته المعتادة على أبسط الأمور، ترك في نفس جيل كامل من أعلام الكتاب والنقاد شيئًا، أرادوا ألا يتركوه أسيرًا للطي والنسيان، فدونوه في مناطق عدة وعلى فترات متباعدة، على صفحات الجرائد اليومية، فيما كان يعرف بـ "أعمدة الأدب"، لتأتي بعد ذلك "مكتبة مصر" وتحديدًا عام 1986، وتجمع شتات هذه المقالات في كتاب واحد يحمل نحو 400 ورقة تحت عنوان "يوسف إدريس.. بقلم هؤلاء"، يتضمن شهادات "الكبار" حول يوسف إدريس، أدبه ونقاط قواه، ما تفرد به وما أُخذ عليه.  


كان ضمن هؤلاء الكتاب والنقاد، عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، والناقد والأديب الكبير لويس عوض، والكاتب الصحفي على أمين، والكاتب سليمان فياض، والأديب أنيس منصور.

ونستعرض في هذا التقرير أبرز ما قيل وكُتب في أمير القصة العربية، وصاحب النقلة النوعية الواقعية لعالم القصة العربية بنوعيها.    

"سيد المؤلفين المسرحيين".. على أمين يدافع عن اشتراكية إدريس  
تحت عنوان "فكرة" شرع الكاتب الصحفي وأحد أعمدة مؤسسة الأهرام الصحفية، الراحل "على أمين" في تحليل شخصية الأديب والقاص يوسف إدريس من خلال مسرحيته التي نُشرت في نهاية خمسينات القرن الماضي تحت عنوان "فرافير" والتي تحولت لعمل مسرحي متكامل عام 1968 بطولة الفنانين كرم مطاوع وتوفيق الدقن وعبد السلام محمد.

بدأ أمين أنه قرأ المسرحية بعين الناقد وليس القارئ أو الصحفي، فما يلبث أن يعدد محاسن المسرحية التي ناقشت الصراع الأزلي بين شريحتي السادة والعبيد، ليلتفت إلى النبرة الطبقية التي كان إدريس يتحدث بها خلال عمله، معولًا على إصراره الدائم لوضع نفسه موضع القاضي والجلاد لأعماله.

ونظر على أمين إلى يوسف إدريس الاشتراكي الباحث المتصدر عادة مشهد المفتشين عن حقوقهم من عمال وفلاحين وفقراء وحتى موظفي الدرجات الدنيا، فنراه يدافع عنه باستماتة ضد التيار الناقد والمشكك في إشتراكيته بعد أن أبرز في نهاية مسرحيته الدور الهام الذي يلعبه السادة في مجتمعهم وكيف بدت الغلب لهم في النهاية، مما دفع البعض حينها بإتهامه بالمتاجرة باشتراكيته التخلي عنها من أجل تحقيق انتصار مسرحي صغير، وقف هو في مواجهة هذا التيار قائلا عن إدريس: "يوسف لم يتخل عن اشتراكيته ولو لحظة واحدة، بالرغم من جنوحه للرأي القائل أن الحياة لا يمكن أن تدور بلا أسياد، والنظام الطبقي لا يمكن التخلص منه حتى في الآخرة، إلا أنه كان يريد بذلك أن يثير عقول الناس ليبحثوا عن طريقه جديدة ليتخلصوا بها من أسيادها"، كأنه يعلن لمن انتقدوا إدريس ووصفوه بالداعي لمجتمع طبقي، أنه أراد بهذا اللون الجديد أن يدفع الجمهور لخلق المزيد من التساؤلات وعلامات التعجب.

إدريس خلق ليكون "قاصًا"
وصف الدكتور طه حسين الراحل يوسف إدريس بأنه ظاهرة جديدة في تاريخ الأدب العربي الحديث، إذ جمع بين الطب بتخصصاته الدقيقة والجافة، وبين الأدب وفن القصة القصيرة تحديدا، الذي عُد في تلك الفترة من أصعب الفنون الأدبية على الإطلاق، حتى أنه قال عنه: "كأن هذا الكاتب الشاب قد خلق ليكون قاصا".

وخلال استشهاده بمجموعة "أرخص ليالي"، أول مجموعة صدرت لإدريس عام 1954، حيث قدم مقاله خصيصا لتهنئة إدريس على صدور المجموعة، أوضح "حسين" كيف خاض إدريس "الواقعي الموضوعي" وحده المعركة الأدبية السائرة ضد تيار القصة العربية الجانح نحو الخيال والمثالية، فهذا العمل الذي خرج به إدريس على سبيل التجربة، ما لبث أن نال إعجاب الكثير من النقاد والأدباء الكبار، "وجدت في الكاتب تعمق للحياة وفقه لدقائقها وتسجيل صارم وصريح لما يقع في المجتمع من أعاظم الأحداث، فهو الطبيب الذي حين يكتب يضع يده عى معناه وعلة الداء باحثا عن الدواء".

وأخذ عليه فقط إفراطه في استخدام اللغة العامية حينما يتحدث في قصصه على لسان أحد أبطاله، فكان يطلق العنان للعامية تسوقه، مادام الحوار دائرًا بين أبطال القصة، يقول حسين: "إدريس مفصح إذا تحدث ولكن إذا أنطق أشخاصه أنطقهم بالعامية".

النرجسي الذي غضب من السادات وأغضبه
في عدد الثلاثاء 13 يوليو 2004، وبينما كات جريدة الأهرام تحتفي بمرور خمسين عاما على صدور أولى مجموعة يوسف إدريس القصصية، "أرخص ليالي"، حاورت الصحيفة عددا من رفاقه ومحبيه الذين رسموا بكلماتهم ملامح وأبعادا للشخصية المثيرة عادة للمعارك والقلاقل، وتحريك المياه الراكدة، حتى أن أحدهم وصفه مرة بأنه كان إذا لم يجد من يتعارك معه، يتعارك مع نفسه!.

كان الكاتب الكبير سليمان فياض، ضمن كوكبة الكتّاب الذين حاورتهم الأهرام، وتحدث فياض خلال حواره القصير مع محررة الأهرام "نهلة عيسى"، عن اللقاء الأول الذي جمعه بإدريس في خمسينات القرن الماضي على مقهى "انديانا" وكيف تحول إلى معلمه وأبيه الروحي والناصح الأمين.

وتحدث أيضا فياض عن نرجسية إدريس، حتى أنه كان لا يقبل النقد حتى من أقرب أصدقائه، واصفًا إياه بـ"الحسّاس".

وحقيقة عزوفه عن قراءة معظم أعمال كتاب جيله، اعتدادا واعتزازا بنفسه فكان لا يقرأ إلا أعماله هو فقط، لكنه بالرغم من ذلك حرص على التقرب من الكُتّاب الشباب وإعطائهم المزيد من الفرص الإبداعية، بل وتولى نشر مجموعة "سارق الكحل" القصصية التي جمعت أعمال عدد من الشبان.

وخلال حواره تحدث فياض عن الأسباب الخفية وراء العداء بين الرئيس السادات وإدريس، قائلا: "السادات في أول الأمر أنقذ إدريس في بداية حياته كطبيب، حيث كان يعمل مفتشًا للصحة، وفي إحدى المرات منح مساعده التوقيع على شهادات الوفاة، فتسبب في منح شخص حي شهادة وفاة، كاد يفقد وظيفته لولا تدخل السادات الذي نقله من وظيفته ليعمل في جريدة الجمهورية.

إلا أنه تردد في الوسط الثقافي بعد ذلك أن إدريس هو من كتب للسادات كتاب "ياولدي هذا عمك جمال"، وظهر ذلك حينما غضب إدريس وأعلن أمام الجميع أن السادات لا يعيره اهتمامًا بالرغم من كل ما قدمه له على مر السنين، مرورًا بكتابة كتاب "معنى الاتحاد القومي"، الأمر الذي دفعه للتوقيع على البيان الشهير للمثقفين عام 1972 من أجل خوض الحرب ونهاية اعتصام نقابة الصحفيين.

إدريس نيم قارئه "مغناطيسيا"
حينما نقرأ لـ"يوسف إدريس" نشعر كأنه يرى الحياة بعيوننا نحن ونستعرض من خلال ذواتنا نحن، هذه هي الواقعية والموضوعية من النوع الجديد".. بهذه الكلمات البسيطة يستعرض الناقد والمفكر الكبير لويس عوض، ما ميّز يوسف إدريس عن غيره من كتاب القصة القصيرة المصرية، بقدرته على تنويم قارئه تنويما "مغناطيسيا" ففي حين يبدو إدريس خلال نسج خيوط أحداث قصته هو الجالس في مقدمة المسرح والمدير للحوار كيفما يشاء، فيبدو كل مشهد حاملًا لضمير المتكلم فقط، كأن إدريس وقف في منتصف قصته قائلا :"أنا بطل القصة لا أحد غيري!".

عوض رأى القدرة الفائقة التي جعلت قارئ يوسف إدريس لا يدرك ذلك قط، فمنذ أن تبدأ القصة، يجعل القارئ، وفقًا لـ"عوض"، يعيش التجربة كاملة يراها بعينه هو ويصبح بطلها الخاص، فما بين الموظف الفقير القابض على مبادئه، والفلاح المدجج بكافة أنواع الأمراض الفتاكة، والريفية الساخطة على حياتها، يمكن أن يجد المرء في كل شخص هو وهي.. أنا وأنت!  يقول لويس عوض "إدريس يسلب القارئ عقله ووعيه، فيصبح أسيرا للخيوط التي يحركها هو بأصابعه فتسير الأحداث في نصابها الصحيح".  

طبيب يكتب "روشته" الأدبية
مقال الأديب "أنيس منصور" حول القاص يوسف إدريس، حمل عنوان "هذه أرخص ليالي.. يوسف إدريس"، كان بمثابة تحليل زمني لقصص إدريس، ذلك الشخص الذي يختار دائما موقفا من حياة أي إنسان، ثم يقتطع منها بضعة مليمترات زمنية ومكانية، ويجعل منها ببراعته ويقظته قصة قصيرة متكاملة الأركان، هكذا لخص أنيس منصور مسيرة الـ 800 قصة قصيرة في بضع كلمات بسيطة واضحة.  

وصف أيضا منصور أمير القصة العربية بالطبيب الذي يصف الروشتة الطبية لقرائه، فهو يعرف تحديدا كيف يبدأ قصته وينسج خيوط أحداثها وكيف ينهيها، فيما يشبه خفة يد الطبيب الذي يصف الدواء لمريضه، فتأتي عناوين قصصه كيفما اتفق ولاءم طبيب لا قلم وأديب.
الجريدة الرسمية