ماذا بعد إكراه القاضي على تقديم استقالته؟
رئيس محكمة سابق بمحكمة جنوب القاهرة استدعى لمقابلة مساعد وزير العدل لشئون التفتيش القضائي، فأمر الأخير بغلق باب مكتبه ولاحقه وعدد من المفتشين القضائيين بأسئلة واتهامات في شأن مسلكه المعيب في العمل وهددوه بأنه إذا لم يقدم استقالته سيتم القبض عليه وحبسه والتشهير به في الصحف، فحاول رئيس المحكمة مقاومة هذا التهديد لأكثر من ثلاث ساعات وهو في حالة اضطراب نفسي وعصبي خاصة وأنه يعاني من ارتفاع في ضغط الدم وتصلب في الشرايين حتى شعر بالاختناق واضطر إلى تقديم استقالته.
هذه الواقعة ليست قصة أو رواية من وحي الخيال، وإنما حكاية حدثت بالفعل ووردت في حكم إحدى الدوائر المدنية بمحكمة النقض في الطعن رقم 49 لسنة 65 قضائية الذي تقدم به القاضي للحكم بإلغاء قرار وزير العدل بقبول استقالته، مؤكدًا أن هذه الاستقالة وليدة إكراه مبطل للرضا ولم تصدر عن إرادة حرة مختارة.
محكمة النقض أصدرت حكما تاريخيا مرصعًا بالذهب، وقالت أن طلب الاستقالة باعتباره مظهرًا من مظاهر إرادة الموظف في اعتزال الخدمة يجب أن يصدر برضاء صحيح، فيفسده ما يفسد الرضا من عيوب ومنها الإكراه إذا توافرت عناصره التي تتمثل في أن يقدم الموظف الطلب تحت سلطان رهبة بعثتها الإدارة في نفسه دون حق، وكانت الاستقالة قائمة على أساس بأن كانت ظروف الحالة تصور له خطرًا جسيمًا محدقًا يهدده هو أو غيره في النفس أو الجسم أو الشرف أو المال على أن يراعى في تقدير الإكراه جنس من وقع عليه الإكراه وسنه وحالته الصحية والاجتماعية وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر في جسامته.
وجاء بالحكم الذي تلقيناه من أحد السادة القضاة أن المحكمة رأت من الظروف والملابسات التي أحاطت توقيت طلب الاستقالة والعجلة التي لابست قبولها في ذات يوم تقديمها أنها كانت مطلوبة أساسًا بغرض التحلل من الضمانات التي أحاط بها القانون لرئيس المحكمة باعتباره من أعضاء الهيئة القضائية غير القابلين للعزل طبقًا للمادة 67 من قانون السلطة القضائية وإن الطاعن لم يتقدم بهذه الاستقالة عن رغبة صحيحة ورضاء طليق من الإكراه.
محكمة النقض استمدت اقتناعها بذلك وفقًا لما ثبت من الأوراق بأن القاضي كان يتردد على مستشفى هليوبوليس للعلاج من ارتفاع في ضغط الدم وارتفاع في نسبة الكولسترول في الدم وآلام حادة بالصدر والشريان التاجي حيث كان يجري فحوصًا طبية في المستشفى قبل يوم الاستقالة بأربعة أيام ونصحوه بالراحة التامة مع العلاج لمدة شهر، ورغم ذلك تم استدعاؤه إلى مكتب مساعد وزير العدل لشئون التفتيش القضائي وهو يعاني من أمراضه الثابتة بالتقارير الطبية حيث واجهه شفهيًا بما هو منسوب إليه بمحضر تحريات الرقابة الإدارية رغم كونها أقوال مرسلة لا دليل عليها.
ولم يجد النائب العام ما يدين رئيس المحكمة المستقيل جنائيًا بل وربما تأديبيًا فأرسله للتفتيش القضائي للنظر فقدم القاضي استقالته مكتوبة دون أن يجرى معه تحقيق فيما ورد بهذه التحريات مجهولة المصدر في أغلبها، وقد أصدر وزير العدل قراره بقبول تلك الاستقالة في ذات اليوم بما لا يتفق والمجرى العادي للأمور بأن يسعى رئيس المحكمة وهو من رجال القضاء الذين يدركون ما لهم من حقوق وضمانات إلى التقدم بطلب استقالته مختارًا وفي الظروف التي قدمت فيها ما لم يكن ذلك نتيجة رهبة حقيقية عاناها ولم يقوى على تحملها أو مقاومتها وهي تهديده بأن إستقالته بديل عن القبض عليه وحبسه ومنعه من الخروج من إدارة التفتيش قبل تقديم استقالته.
شددت المحكمة أن ملف رئيس المحكمة السري لا ينبئ عن سلوك منحرف، بل إن الثابت من الأوراق أن القاضي أرسل مذكرة إلى وزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى يشكو فيها ما تعرض له من إكراه على طلب الاستقالة طالبًا سحبها والتحقيق معه ومساءلته قانونًا إن كان هناك موجب للمسئولية، فضلًا عن أن حالته الصحية تدهورت حيث ثبت من التقارير الطبية أنه ما زال يعاني من من ارتفاع في ضغط الدم وارتفاع في نسبة الكولسترول في الدم وآلام حادة بالصدر والشريان التاجي، مما يؤكد أن طلب الاستقالة صدر عن غير إرادة حرة تحت تأثير الإكراه المفسد للرضا والاختيار مما يبطل قرار وزير العدل بقبول الاستقالة المبني عليه فقضت المحكمة بإلغائه.. وللحديث بقية.