ماذا تبقى في أذهان الأطفال؟.. أبناء «شهداء ليبيا» يروون ذكريات الآباء (صور)
وقف الأطفال الثلاثة متشابكي الأيدي أمام «المربع الخشبي»، الذي يحوي رفات «شهداء ليبيا»، قفز أكبرهم فوق كرسي خشبي، في محاولة لخطف «نظرة»، لـ«ما تبقى من جثمان والده»، المرصوص بجوار الأقباط الـ20، والتأمل في صورة الأب الموضوعة فوق «لوح» زجاجي، يغطي الجثامين، يعوض بها سنوات الغياب.
«بيتر، إيريني، بولا».. أطفال ثلاثة تركهم الشهيد «صموئيل الهم» ورحل.. في حضرة أبيهم العائد في «تابوت»، يمرحون، يقفزون، يتبادلون الهمسات والضحكات، يركضون في ساحة كنيسة «شهداء الإيمان» بقرية العور التابعة لمركز سمالوط، شمال محافظة المنيا.
أمام «المزار» يقف الثلاثة، يتابعون بعيونهم الاحتفاء الخاص بـ«الوالد»، يطفون حول «المربع الخشبي»، وكأنهم يتفاخرون «نحن أبناء الشهيد».. لا يدركهم الحاضرين، هم أيضا لا يعنيهم من يتابعهم.. فقط «الفرحة من أجل الفرحة».
فجأة.. قفز كل منهم فوق «كرسي خشبي»، لمتابعة الوضع من أعلى، عيونهم تتجول في أرجاء المكان دون خوف «الوالد حاضر»، حتى إن كان «جثمان في تابوت»، وكأنهم يعلنون أن «الأب سند».
«بيتر».. طفل لا يتخطى عمره الثمانِ سنوات، هو الأكبر بين إخوته.. «حبيب والده»، و«فرحته الأولى»، كمال قالت أرملة الشهيد صموئيل: «كانت روحه فيه أصله أول فرحته».
أمام جثمان الوالد وقف «بيتر» متأملا أحيانا، سارحا أحيانا أخرى، وكأنه يسترجع شريط ذكرياته مع «الأب»: «كان يشيلني دايما على كتافه.. كنت بروح معاه كل المشاوير».
أدار «بيتر» رأسه إلى الخلف قليلا.. ألقى نظرة خاطفة «حيث يرقد الوالد»، وعاد قائلا «أبويا كان يحبني قوي.. ومكنتش بسيبه لحظة واحدة، كان طول ما هو في البلد يخدني معاه كل مكان».. صمت قليلا، وتعالت من خلفه أصوات المحتفيين بعودة «شهداء ليبيا».. قطع صمته وفي عينيه «لمعة» تعكس حزن قلبه «أبويا كان بيجبلي كل اللي نفسي فيه.. مكنش مخليني عايز حاجة خالص».
حاولنا الابتعاد قليلا عن «زحمة المزار»، لكنه تمسك بالبقاء «مش هسيب أبويا.. أصله وحشني قوي».. «بيتر»، صاحب الـ8 سنوات، «يرفرف» شعره الناعم، كلما تعالت سرعة «المروحة».. يقف «حافي القدمين» أمام المزار يشعر «أن الأرض التي يقف عليها أرض مقدسة»: «أبويا سبقنا للسماء لأنه قديس.. وهنقابله لما نروح عنده».
من أين جاء الطفل صاحب الـ8 سنوات بمعلومة أنه «قديس».. يجيب «بيتر»، بعد أن ارتسمت ابتسامة «صافية» فوق شفتيه وكأنه يتعجب السؤال «أبويا مات شهيد.. وعلمونا في مدارس الأحد إن اللي بيموت شهيد ده قديس.. يبقى أبويا قديس».
«إيريني».. كانت تتابع عن قرب كل كلمة يقولها شقيقها الأكبر، بابتسامة الأطفال، تتعالى أحيانا بـ«كسوف» عندما يقول شيئا يعجبها أو تلتقي أعينهما، يتشابكان أحيانا بـ«النظرات»، يتعاتبان أحيانا أخرى بـ«الأنامل الصغيرة».. لكن تبقى «المحبة حاضرة» بينهما.
الطفلة صاحبة الـ5 سنوات، ترتفع سنتيمترات عن الأرض، جسدها نحيل، شعرها الناعم، أضفى عليها جمالا خاصا، هي الأكثر خجلا بين أخواتها الثلاثة، يديها لا تكاد تفارق «فمها»، كلما اتجهت لها الأنظار، تهرب من نظرات المتابعين لها بالدوران للخلف، لكن سرعان ما تعود.. لكن عينيها «حالكة السواد»، تبدو حزينة أو هكذا كانت.. ربما لأننا شاهدناها في اليوم التالي لعودة «الرفات»، حيث كانت حاضرة في جميع حالات اليوم «الحزينة والسعيدة».
«إيريني».. رحل والدها وهي في بدايات عامها الثاني، الذكريات بينهما قليلة، بالكاد تجمع ملامحه، لا تكاد تتذكر أوقاته معه، لا تعرف إن كان يحبها، لا تتذكر آخر حضن بينهما.. لا تعرف شعور «القبلة الأولى» من والدها.. تندهش في كل مرة تنطق فيها كلمة «أب»، فهي لا تدرك ماذا تعني «الأبوة».
تقفز «إيريني» في ساحة كنيسة «شهداء الإيمان» بالعور، وفوق المساحات الخضراء كـ«الفراشة».. «الابتسامة اليتيمة» لا تفارق وجهها الملائكي، فرحه هي كانت طوال الوقت، وعن سبب فرحها تقول «أبويا رجع».. لكنها لا تتذكر ملامحه سوى من الصور «آه عرفته من الصور اللي ماما ورتهالي.. واللي عندنا في البيت».
بين المساحة الخضراء و«المزار» الموجود في الطابق الأرضي للكنيسة، تتنقل «إيريني»، بـ«خفة».. تركض أحيانا، وتتمايل أحيانا أخرى تتابع كل ما يدور في الكنيسة.. لكن وقتها الأكثر يكون بجوار «ما تبقى من جثمان والدها»: «بحب أجي هناك كتير، عشان أكون جنب أبويا».. لو عاد والدها دقيقة واحدة إلى الحياة ستقول «إيريني»: «أنا بحبك».
عن يمين «إيريني» يقف «بولا»، آخر الأطفال الثلاثة، هو الأكثر مأساة فلم يرَ والده قط، لا ذكريات بينهما إطلاقا، فقد تركه «الأب» في شهوره الأولى.. لا يغادر «المزار» كإخوته تماما، «إيريني» هي الأقرب للطفل «الأبدن» قليلا، دائما ما يقفزان يلعبان معا.. تمسك به الطفلة جيدا.. لا يفلت من يديها أبدا.
«كان بيتمنى ليهم كل شيء جميل».. هكذا علقت «أرملة الشهيد صموئيل الهم» على أحلام الوالد لأطفاله الثلاثة قائلة «كان نفسها يعلمهم ويكونوا من أحسن الناس».. لمعت عيناها وكادت الدموع أن تخونها وتخرج من محبسها غصبا عنها «مات شهيد.. وإحنا عايشين ببركته».
تركنا كنيسة «شهداء الإيمان»، وبين الزراعات سرنا في اتجاه منزل الشهيد «ملاك إبراهيم»، هناك حيث «فلوباتير»، الطفل الذي لم يتخطَ عامه الرابع.. استقبلنا بـ«ابتسامة شقية»، كما هو أيضا.
الطفل صاحب الـ4 سنوات، تجولت عيناه يتابع صور والده الموجودة في «المزار»، الذي أنشأته الأسرة بالمنزل، بمجرد أن نطقنا اسم «الأب».. تفحص ملابسه، أدواته، ثم صمت ينظر إلينا بتعجب «شفت أبويا لما رجع في الكنيسة».
تمتم قليلا بكلام غير مفهوم «طفولي»، وعاد يقول «أول ما جه الكنيسة كنت نايم.. بس رحت الصبح عشان أشوفه.. وعرفت شكله من الصور».
غادرنا المنزل وتركنا «فلوباتير» مع ما تبقى من «ذكريات والده».. وفي المنزل المقابل كان يقف «صموئيل» ابن الشهيد «ميلاد مكين».. طفل كثير الكلام، رغم عمره الذي بالكاد يصل لـ3 سنوات ونصف، جسده بدين قليلا، شعره ناعم، الابتسامة لا تغادر وجهه.
أمام صورة والده وقف «صموئيل».. تأملها وتأملنا، أحنى رأسه قليلا قبل أن يقول «شفت أبويا في الحلم.. ولما أروح الكنيسة هشوفه طبعا، وأقوله كلام كتير».. الشمع الموجود في «مزار المنزل» أضفى على الغرفة شيئا من «الروحانية»، وهو ما فسرته «أرملة الشهيد» قائلة «ده شهيد.. يعني قديس، وربنا ينيح أنفسهم جميعا».