رئيس التحرير
عصام كامل

عن السيجارة الأولى!


كان مذاق السيجارة الأولى مختلفا، وقتها كانت صدورنا بِكرًا، وقلوبنا تنبض بالحياة، تسكنها روح التحدي، تحدي أي شيء، وكل شيء، تحدي سلطة الأب، تحدي التحذيرات من مضار التدخين، تحدي نظرة المجتمع الذي يعتبر التدخين علامة لا تقبل الشك على الفشل وتدني الأخلاق، تحدي رداءة السيجارة التي نُدخنها..


كانت "الكليوباترا" التي أسماها بلال فضل في أحد أفلامه "كوكو الضعيف"، حلما بالنسبة لإمكانياتنا، السيجارة الشعبية وقتها كانت "فلوريدا"، أو "نفرتيتي"، أما سيجارة الطبقات الأدنى فهي "شهير" أو "سمسون"، وهي سيجارة دون فلتر، وبعضهم كان يحتفظ بباكو الدخان، ودفتر البفرة، ليلف سيجارته بيده..

ولكل مدخن قصة مع السيجارة الأولى، هناك من دخنها بدعوة من صديق، وهناك من جربها تقليدا للأب، أو العم، أو المعلم، وهناك – وهؤلاء هم الأغلبية – من لجأوا إليها في مطلع المراهقة، ليثبتوا لأنفسهم أنهم صاروا رجالا، كل هذا جعلني مهتما في بداية علاقتي بالتدخين، بالبحث عن المدخن الأصلي، أبانا الذي شد النفس الأول، وسَعل وبصق للمرة الأولى في التاريخ، أول من شعر بهذا الخدر اللذيذ الذي يسري في الجسد، والدوار الممتع الذي يصاحب السيجارة الأولى، عرفت وقتها أن صاحب الريادة، أول شخص "خرمان" في تاريخ البشرية، كان من الهنود الحمر!

اكتشف الهنود الحمر نبات "التبغ" في القرن الخامس عشر، لم يكن التدخين عندهم يشكل أي دلالة سلبية على أخلاق المدخن، ربما العكس هو الصحيح، حيث كانت الأسرة كلها تستنشق التبغ، الزوج والمدام والأولاد، يتجمعون في دائرة حول النار ويحرقون التبغ ويستنشقونه، كان ذلك يحدث أيضا في مناسبات احتفال القبائل بالانتصار على قبائل أخرى، وكانوا يتصورون أن الدخان الناتج من احتراق هذا النبات، يطرد الشياطين والأرواح الشريرة ويشفي من الأمراض!

وجاء كريستوفر كولمبس ليكتشف الأمريكتين، وبدأ التبغ يتسرب مع البحارة العائدين، ثم انتشر في العالم كله..

قصة يعرفها الكثيرون، لكنني أتوقف أمامها أحيانا لأتأمل حجم الكارثة التي أصابت البشرية كلها، من تصرف شخص – أو شعب - كان يعتقد أنه يهدي العالم كله، وسيلة ناجحة للتغلب على الشياطين، فعلها بجهله وتخلفه، وورط البشرية كلها في عادة تقتل سنويا نحو 6 ملايين شخص..

لكن هل يتحمل "الخرمان الأول" وحده تبعات الكارثة؟ ربما يكون هو صاحب المسئولية الأكبر، لكن ذلك لا ينفي مسئولية من حول خرافة الهنود الحمر إلى "بزنس"، حيث كان الأمريكان أول من أنشأ مصانع إنتاج السجائر، وكأنها حلقة من مسلسل ما زلنا نتابعه حتى الآن، شعوب متخلفة تخترع الخرافة، وتؤمن بها وتغرق فيها، ودول كبرى تستثمر جهل تلك الشعوب، لتجني الأرباح!

ورغم القرون التي مرت، ما زلنا نقع في الفخ نفسه الذي وقع فيه الهنود الحمر، وما زال لدينا تلال من الخرافات المقدسة، بداية من التعالي على شعوب أصبحت الآن الأكثر تحضرا، بدعوى أننا كنا أسيادهم في يوم ما، ومرورا بخلافات ونزاعات أصحاب الأديان المختلفة، ونظرة أتباع كل دين إلى الآخر، باعتباره ضالا وعاصيا، بل واتهامات التكفير بين المذاهب المختلفة في الدين الواحد، وانتهاء بخرافة أننا لا نصلح للديمقراطية، وأن الاستبداد هو الأسلوب الأمثل لحكمنا، والنتيجة أننا سنظل على حالنا، "هنودا حمرا"، نقضي جُل يومنا في مطاردة شياطين افتراضيين، بدخان الخرافة!

على الجانب الآخر، هناك مستثمر جاهز يتحين الفرصة، دول تصنع لخلافاتنا الدينية حروبا لتبيع أسلحتها، تستغل عنصريتنا وطائفيتنا، لتجد المبرر لممارسة أبشع أشكال العنصرية ضدنا، تحمي الديكتاتوريات التي صنعناها، لتحصد لنفسها المزيد من المكاسب!

قد تسألني: ما علاقة السيجارة الأولى، بالهنود الحمر والأمريكان؟ وما الذي يربط كل هذا بخلافاتنا الدينية والمذهبية، ورحلة البحث عن الديمقراطية؟ وحقيقة الأمر أنني لا أملك الإجابة، وكل ما أعرفه أنني مضطرب التفكير، شارد الذهن، بسبب محاولاتي للإقلاع عن التدخين!
الجريدة الرسمية