وداعًا أيها الغريب.. قارئ يرثي من «جعل الشباب يقرأون»
أرثيك حقًّا أم أرثي نفسي، وداعًا أيها الغريب، عشت غريبًا ورحلت على الحال ذاته.. غريبًا، لن أنسى ما حييت تلك اللحظة التي استيقظت فيها لأفتح حساب فيس بوك الخاص بي، وأتفاجئ بالخبر المفزع، خبر رحيلك أيها العراب، تساءلت والذهول يتملكني، أحقًّا رحل أحمد خالد توفيق؟رحلت القامة والقيمة، رحل رفعت إسماعيل وعلاء عبد العظيم، ورحلت عبير؟ دمعت عيناي وتذكرت عمرًا عشته معك والسؤال ذاته لم يهدأ ولم يتوقف عن التكرار، أحقًّا رحلت؟
تذكرت حينما كنت مراهقًا لم يتعدَّ عمري الخامسة عشرة، كنت أحب القراءة وأتردد بين الحين والآخر على "أم عثمان"، بائعة الجرائد، ووجدت عندها صدفة أولى رواياتك من سلسلة "ما وراء الطبيعة"، رشحتها أم عثمان لي قائلة إن هذا كتابًا لكاتب جديد من طنطا، حيث أعيش، لم أتردد كثيرًا في اقتنائه، وبمجرد قراءته تعلقت بـ "رفعت إسماعيل"، العجوز "خفيف الدم"، وأصبحت فيما بعد متيمًا بالسلسلة التي كنت حريصًا على حجز أعدادها الواحد تلو الآخر، فالإقبال عليها كان شديدًا وكنت دائمًا أوفر من مصروفي لكي أقتني كل جديد منها، ومن وقتها وحتى بعد أن تخطيت الأربعين وأصبحت مأمورًا للضرائب، كنت قارئًا مخلصًا متتبعًا أسيرًا لكل كتاباتك، ولم يكن يمر كتابًا جديدًا لك إلا وقد اقتنيته، لقد كنت جزءًا من تكويني، وإن كنت أحب القراءة قبل الإطلاع على كتاباتك فأنت جعلتني أعشقها، كنت بذاتك نبعًا للمعرفة.
حينما عدت إلى الحاضر، أنكرت خبر رحيلك ولم أتخيل أنه خبر صحيح، ولكن بدا أن الجميع يؤكده، فقررت أن أترك كل ما بيدي لأذهب وأشارك في صلاة الجنازة، وحينما رأيتك محمولاً على الأعناق ساورني الشك من جديد، أهذا الجثمان هو حقًّا لك؟ لكنني تأكدت حقًّا أنه أنت حينما رأيت الدموع تترقرق في عيون كل الشباب الحاضرين في جنازتك، هم يبكونك مثلي، هم أحبوك مثلي، هم تأثروا بسحرك يا عراب، فقد كنت جزءًا من كل من حضر ليودعك، والغريب أن جميعهم كانوا شبابًا.
حينما تحرك الموكب ليواري جثمانك الثرى، أحسست وشعر الحضور جميعًا أننا ندفن جزءًا من روحنا، وجدت أناسًا كثيرًا من حولي يشبهونني، زملاء، ورفقاء تقريبًا في مثل عمري، أكبر قليلاً وأصغر قليلاً، حتى أننى وجدت شبابًا في العشرينيات، وكنت مندهشًا لماذا كل من يودعونك تقريبًا شباب، ولكنني عدت وأجبت عن سؤالي بأن كل من كان لديه ميل للقراءة كنت أنت قد ساهمت بشكل أساسي في تكوين جزء من معرفته بل وشخصيته، فقد نقلتنا بكتاباتك إلى آفاق بعيدة ومعرفة جديدة، لقد كنت حقيقيًّا ونبضًا للشباب، وهذا كان سر سحرك، فمعظم كتاباتك تكاد تصل إلى مستوى النبوءات في عقولنا، كل أبطال رواياتك أصبحوا مع الوقت جزءًا من شخصياتنا، كنا قراء نضحك ونحزن ونحن نقرأ رواياتك، فقد كنت تملك القدرة على دغدغة كل حواسنا، كنت دومًا يا عراب تردد أمنيتك "أود أن أجعل الشباب يقرأون" وأنا أقول لك أنك لم تجعل الشباب فقط يقرأون، بل جعلتهم يعيشون في عالمك الخاص، فالكتب هي لمن يريدون الوجود في مكان آخر، وأنت أشعلت هذه الجذوة في عقولنا.
"أمقت الصوت العالي بشكل لا يوصف، ومن المؤسف أننا محاطون بأشخاص لا يملكون أي موهبة إلا صوتهم العالي".. "يرعبهم كونك مختلفًا كونك لا تشبه تكرارهم".. "ستكون مشاهد جنازتي جميلة ومؤثرة رغم أنني لن أراها للأسف رغم أنني سأحضرها بالتأكيد"، رحمك الله أيها العراب، فلن أتمكن من وصف مكانك في القلوب بأكثر مما استعرته من كلماتك أنت التي اقتبستها منك، وداعًا أيها الغريب، عزائي الوحيد بعد رحيلك أنك تركت جزءًا منك بداخلنا نحن قرائك ومحبيك، إلى الأبد وحتى تحترق النجوم، ستظل عراب الشباب الذين وجدتهم أمام قبرك، يبكون وينتحبون، وفي عيونهم تلك النظرة الملتاعة بفقد عزيز، رغم أنهم لم يقابلونك أو يروك، فقد كنت مُقلاً، في ظهورك، وجدتهم مثلي يودعون جزءًا من روحهم، وعزائي أيضًا، أنني قابلتك وجهًا لوجه، تحدثت معك، ورأيتك، ورأيت حقًّا كيف يكون التواضع، والقامات العظيمة، وكانت هذه اللحظة من أسعد اللحظات في حياتي، وداعًا أيها الأخ، والوالد، وداعًا أيها العظيم.
محمد الرفاعي
قارئ تربى على كتابات أحمد خالد توفيق