رئيس التحرير
عصام كامل

سيرا على خطى «العراب».. عادل عصمت: القاهرة طاردة المثقفين وطنطا قبلة الإبداع

أحمد خالد توفيق وعادل
أحمد خالد توفيق وعادل عصمت

على امتداد الجهة الغربية لبلدة طنطا بمحافظة الغربية، بينما تتسارع سيارة الأجرة لتَشق الزحام القابض على موقف سيرفيس" الشهيد عبد المنعم رياض بمركز "سبرباي" بالبلدة ذاتها، فيبتعد الضجيج شيئا فشيئا كلما انعطفت السيارة جهة اليسار ناحية كلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر الملحقة بجامعة طنطا.


تتوقف السيارة عند مدخل شارع ابن الفارض وبجوار مقهى "المحروقي" العتيق، العشرات من العقارات الغارقة في صمتها بالساعات الأولى من اليوم، كأن الحياة لم تدب بالأساس في هذه الناحية، خاصة في المنزل ذي البوابة الحديدية السوداء، حيث يقطن الروائي المصري "عادل عصمت" الحاصل على جائزة نجيب محفوظ للأدب عام 2016، عن روايته "حكايات يوسف تادرس"، منذ فبراير المنصرم، ذلك الرجل الذي يضرب بقواعد "الإتيكيت" والالتزامات الرسمية الخانقة عرض الحائط، فتجده يسير في شارع ابن الفارض بـ"شبشب بلاستيك" وملابس بسيطة، متأبطا لفة جرائد، يذكرك للوهلة الأولى بأبطال قصص الراحل يوسف إدريس.

ها هو يهجر حياته المتاخمة بالتفاصيل الروتينية المملة، يستأجر شقة محدودة المساحة وكذلك الإمكانات، لتكون جزيرته المنعزلة وجنته المفقودة، بعد أن قرر يترك بيت الأسرة ويعود لطنطا، ليكتب حتى النقطة الأخيرة من مداده، "أنا حنيت لطنطا وعدت لها.. بيني وبين طنطا قصة عشق خفية لا يفهمها هؤلاء الذين تخطفهم الأجواء اليومية الصاخبة".

بالعودة إلى الوراء وقبل أعوام قليلة، ذُكرت العبارة ذاتها وباتت تتردد في هذا البرنامج وتلك الصحيفة، على لسان عراب الرواية المصرية، الراحل الدكتور أحمد خالد توفيق، الذي غيبه الموت عن عالمنا منذ قرابة أربعين يوما، لتسقط بذلك ورقة أخرى من شجرة الإبداع النصي والأدبي وكذلك الثقافي في مصر، فحينما سُئل لماذا تركت القاهرة وعدت إلى طنطا وفضلت البقاء بها؟ ليُجيب إجابته الثابتة بأسلوبه العاقل "أنا لم أتحمل صخب القاهرة وازدحامها الخانق، في طنطا تعشش السكينة، أنا أرتاب من القاهرة ومُثقفيها".

ويبدو أن بطنطا سرا خفيا وروحا كامنة في شوارعها الهادئة، تستقطب أبناءها من الكتاب والمثقفين، يُعاهدونها على البقاء بها حتى الموت، فها هو أحمد خالد توفيق يفارقها ساعات قليلة، فتصعد روحه إلى السماء في مستشفى عين شمس التخصصي بالقاهرة، ليعود مسرعًا إلى ثراها يحتضنه.

كذلك كان عادل عصمت الذي دفعه عمله لسنوات كسائق تاكسي في المدينة، أن يجوب أحياءها شرقا وغربا، يترك ذكرى له في كل شارع، ليعود بعد سنوات يجدها في انتظارها، يستجمع من خلال خيوط الرواية الجديدة، يبحث عن أبطاله على المقاهي وأمام المنازل وفي الشرفات، "أنا تعلمت من نجيب محفوط فن معايشة الشخصيات، هو ألف عشرات الروايات دون الخروج من نطاق الجمالية والعباسية والعجوزة، فاعتمد كليا على رسم الشخصيات والغوص بها، وكذلك أنا فلا حاجة لي بالسفر والترحال والغرق في فوضى القاهرة، ما دمت قدمت صنعت عالمي بيدي في مدينة طنطا، القاهرة شتت عقلي وخيالي، كمان أنا كنت غاوي فن أكثر من الرغبة في المكانة أو "البريستيج" فوجدت الفن منبعه مدينة طنطا الصغيرة وليست القاهرة، كانت ملائمة لشخص مثلي".



عادل عصمت وخالد توفيق جاران لم يجتمعا إلا «صدفة»
في خريف عام 2016 تحديدا نهاية شهر فبراير، وفي مطعم مكتبة الإسكندرية، كان اللقاء الأول للجارين اللذين تلاصقت جدران منزليهما الكائنين بشارع حسن رضوان، والشارع الخلفي له الذي يحمل اسم "شارع بطرس"، لسنوات عدة قاربت الأربعين عاما، دون أن يلتقيا ولو مرة واحدة ولو على سبيل الصدفة، جمعتهما الظروف ذاتها وكذلك الموهبة المغايرة لما هو سائد في عصرهما، إلا أن القدر كانت له حسابات أخرى فظلا متباعدين، حتى حان اللقاء الأول والأخير في المكتبة، حينما كان الدكتور أحمد خالد توفيق، بإصدار إحدى دور النشر مجموعة من النسخ الحديثة لعدد من أعماله، فطرح أحد الأصدقاء المشتركين بين توفيق وعصمت، أن يرتب لهما لقاء أثناء وقت الراحة، حتى يتمكنا من الجلوس معًا ولو مرة واحدة، "قال لي لا يجوز أن تكونا أديبين ثقال وقاطني حي واحد ولا تلتقيا كل هذه المدة"، وبالفعل تم ترتيب اللقاء الذي استمر لنحو عشر دقائق، دار فيهم الحديث عن جيرة الطفولة، أيام مدرسة طنطا الثانوية، وفضائل العيش بعيدا عن القاهرة، كأنهما صديقين يلتقيا بعد فراق دام سنوات، "لم أشعر للحظة أنها المرة الأولى التي أجلس فيها معه، ولم أكن أدري أنها ستكون الأخيرة!".

هاله حينها الكم الهائل من الشباب والفتيات الذين أتوا من كل حدب وصوب في انتظار كلمة يُلقيها فوق منصته، "أنا غيره هو كان واهب حياته لشباب مصر أصر على ترغيبهم في القراءة، أحمد خالد توفيق لا بد أن ينشأ له تمثال في مصر، لكن أنا مجرد كاتب من منازلهم، كل همي أعمل كتب لكن ليس لديَّ الطاقة للقاءات وحوارات، كنت بسأل نفسي إزاي الرجل ده قدر يقابل ويحاور ويفتح صدره لجميع الآراء؟!" يتحدث عادل عصمت عن العراب.

يصمت ثم يطرق برأسه قليلا، تسقط دمعة على صفحة وجهه يمسحها قائلا: "أنا بالفعل لا يمكن أن أصل لربع العطاء الذي قدمه أحمد خالد توفيق، وحديثي هنا عن الدور الثقافي المذهل الذي قام به، له فضل كبير على شباب مصر أنا فخور أنه من بلدي، الشباب كان يصطف حوله في انتظار فقط أن يلقي كلمة عليهم قلت في نفسي هذا هو الكاتب الحق، من يترك بذرة في جوف كل شاب صغير، تنمو وتكبر ولا يزول أثرها برحيل غارسها".


البداية من مكتبة مدرسة طنطا الثانوية
من أحد أركان مكتبة مدرسة طنطا الثانوية المشتركة الكبيرة، لمعت فكرة الكتابة للمرة الأولى في رأس الطالب آنذاك "عادل عصمت" تساءل لماذا لا أكتب، لماذا لا يصبح لي عمل أدبي يجاور هذه الأعداد الضخمة من الكتب والمجلدات، سارع نحو مسرحية الشاعر الفيلسوف الألماني الشهير "جوته"، فاوست، احتضنها وارتكن إلى الحائط، تشربها ثم ذهب إلى المنزل، ليجد نفسه يؤلف نسخة مصغر وطفولية لشخصيات فاوست، لتكون هذه هي المرة الأولى التي يدخل فيها عصمت عالم الكتابة الذي كانت تقاليد العائلة تباعد بينهما لسنوات، بعد أن أجبراه على الالتحاق بكلية الزراعة مدة عامين، " عام 1981 كان كل همي أحقق أمنية أهلي في دخول كلية الزراعة التي مكثت بها عامين ثم انتقلت للالتحاق بقسم الفلسفة في كلية الآداب جامعة عين شمس، لتساعده الفلسفة على سبر أغوار النفس البشرية التي أراد أن يحولها لعمل أدبي".

يبتعد عصمت بعدها عن الكتابة لسنوات منشغلا بالأعباء المادية التي باتت تثقل ظهره بعد الزواج وإنجاب طفله الأول، "نسيت بعدها الكتابة وانشغلت بالسنوات الأولى بكلية الزراعة، وبعد ما قررت التحرر والانتقال للقاهرة لدراسة الفلسفة، كنا وقتها سنة 1981، لكن لم يحالفني الحظ داخل مبنى الكلية كما تخيلت، فأنا تقريبا لم أدرس الفلسفة حقا إلا بعدما تخرجت بسبب اعتقال معظم الأساتذة في فترة الاعتقال الكبير آخر عهد السادات".

عقب تخرجه في كلية الآداب، انتقل للعمل في إحدى شركات البترول في الصحراء المصرية لكنه لم يتحمل نمط العيش هناك، عاد لدوامة القاهرة وعمل في الصحافة بين عامي 1987 و1988 وتحديدا في جريدة "الأهالي"، لكن الأمر لم يفلح، شعرت أنني لا يمكنني العيش في مدينة مثل القاهرة، مينفعش أروح لدكتور أسنان في 3 ساعات، الوقت في القاهرة يضيع في المجال العام والمواصلات، كنت منهك لدرجة أنني لم أستطع بعدها الإمساك بالقلم لكتابة كلمة واحدة، توقفت عن الكتابة! فضلا عن أني لا شأن لي بمهاترات الصحافة".

عاد منذ مطلع التسعينيات إلى مدينة طنطا مرة أخرى، عمل في إحدى المدارس الحكومية أخصائي مكتبات، ثم سائق تاكسي "بعد الظهر"، وعندما يحل المساء، يخلع ثوب عادل الموظف المصري المطحون، غارقا في عالمه الخاص، "منذ تلك اللحظة لم أتوقف يوما عن الكتابة".


لكن عام 1995 كان نقطة التحول في حياة عصمت غير مستقيمة الخطى كما يصفها، فمنذ بداية ذلك العام وعلى مدار نحو 23 عاما، أثقل عادل عصمت المكتبة العربية والمصري بنحو ثمان روايات وقصص قصيرات، منها "الرجل العاري" التي حققت نجاحا وشهرة واسع لم يتوقعها، و"أيام النوافذ الزرقاء"، الحاصلة على جائزة الدولة التشجيعية عام 2011، و"حكايات يوسف تادرس" الحاصلة على جائزة نجيب محفوظ للآداب عام 2016، و"ريم" ورواية "صوت الغراب"، فضلا عن روايتي "الوصايا" و"هاجس موت".

جائزة نجيب محفوظ "الأب الروحي" والمعلم المثالي
عصر أحد أيام خريف عام 2016، هاتف أحد صحفيي جريدة "الأهرام"، عصمت ليبلغه برغبة قسم الثقافة بالجريدة في إجراء حوار صحفي معه بمناسبة فوز روايته "أيام النوافذ الزرقاء" بجائزة الدولة التشجيعية، "لم أنتظرها مطلقا، فقد عرفت الخبر عن طريق الصدفة، أبلغتهم أني لا أعلم أنني فزت بهذه الجائزة إلا منهم ثم أغلقت الهاتف"، تذكر حينها المشهد ذاته حينما تكرر في منزل الروائي صاحب نوبل "نجيب محفوظ" في حي العجوزة، حينما هاتفه أحد الصحفيين يخبره بفوزه بجائزة نوبل للأدب، فيُغلق الهاتف عائدا لاستكمال نومه مجددا.

أما جائزة نجيب محفوظ التي عدها الهبة الإلهية الأولى له، منذ خوضه مجال الأدب والكتابة، "ما زلت حتى الآن أرى أن جائزة نجيب محفوظ هي أهم حدث في حياتي على الإطلاق، حتى حين حصلت على جائزة الدولة التشجيعية عام 2011 لم أشعر بهذه السعادة، الفارق الحقيقي في حياتي الأدبية هي جائزة نجيب محفوظ، رغم أن قيمتها المادية قليلة لكنها من أمواله الخاصة، سيظل نجيب محفوظ بالنسبة لي هو صاحب الأثر الأكبر في حياتي، حياتنا وليس أدبيا، ثمة نقاط تلاقي بيننا، هو موظف مثلي لم يسافر للخارج أو يجوب العالم، كان همه الفن، وهو غرضي أيضا السفر بالخيال كان شغله الشاغل وأنا كذلك، والغوص في تفاصيل الناس حولي معايشة الأحداث والدخول في تفاصيلها".
الجريدة الرسمية