صفوت البططي.. قديس في حضرة «عبد الرحيم القناوى».. ابنة «شاعر الواو» تروي تفاصيل مثيرة عن مكتبته وعلاقته بـ«ابن عروس».. فانوس رمضان يزين منزله.. وأحفاده يكملون مشوار محبته
أن تكون قبطيا في مصر فهذا أمر طبيعى، لكن أن تضرب جذور موهبتك في أرض مسلمة، فهنا تكون موهبتك ووطنيتك متكاملة الأركان، فالموهبة منحة من الله، لا تفرق بين مسلم ومسيحى، شجرة ثابتة جذورها في الأرض وفروعها في السماء، وعندما تكون حاضرة فلا مجال للحديث سوى عن المتعة الخالصة المذهلة، ولا شيء آخر.
ما بين فن «الواو»، والكتابات التي تنبض محبة لـمصر، والزيارات المتتالية لضريح سيدى عبد الرحيم القناوى، وذكريات الأيام المباركة، دارت الأرض دورتها في منزل صفوت سيفين لبيب، فأصبح اسمه «صفوت البططى»، وتحول بمرور الأيام من مجرد شخص عادى، إلى علامة فارقة في تاريخ الثقافة الجنوبية، ليس هذا فحسب، لكنه صار أيقونة تعبر عن محبة الله «رب الجميع»، وعشق الوطن، وتقديس العادات والتقاليد.
القديس الصوفي
القديس الصوفى وصف أطلقه أصدقاء الشاعر الراحل صفوت البططى عليه، بعدما تحول منزله من مجرد منزل عادى إلى قبلة لـ«المسيحيين والمسلمين»، ففى رمضان، من النظرة الأولى تظن أن المنزل الذي يرفرف فوقه علم مصر بألوانه الثلاثة ونسره الذهبى، وبجواره فانوس رمضان، منزل مسلم، غير أن سؤال أحد المارة في الشارع سيكشف المفاجأة، فالبيت لشخص مسيحى، لكنه يصر أن يكون مصريًا في كل الأوقات، في رمضان يضيء الفانوس، وطوال بقية أشهر العام، يترك علم مصر يرفرف عاليًا، ضاربًا المثل الأروع للجميع.
«من يوم ما سمينا مايكل وأحمد.. اتفرقنا.. أوعى أنتى كمان تسمى وتفرقي.. الدين لله.. والأسماء للجميع». جملة لا تزال «إنجى» تتذكرها وتحفظها عن ظهر قلب، بعدما قالها لها والدها الشاعر صفوت البططى، عندما أخبرته بنبأ حملها.
كتاب الشيخ الخطيب
صفوت لبيب سيفين الشهير بصفوت البططى ولد في 15 مايو 1948، وتعلم في كتاب الشيخ على الخطيب، بالسوق الفوقاني، ولم يكن وقتها الكتاب يعلم القرآن فقط، بل كان يعلم كل شيء، و«أهم تعليم عرفه في كتاب الشيخ على هو المحبة ونطق الحروف باللغة العربية الصحيحة».
لم يكن بيت «شاعر الواو» بيتًا عاديًا، فبجانب ملامحه الخارجية التي تؤكد ذلك، فإن جولة صغيرة داخله، تؤكد– بما لا يدع مجالًا للشك- أن صاحبه لم يكن شخصًا عاديًا، فقد خصص إحدى غرف البيت للاجتماعات وتحديدًا الاجتماعات الخاصة بالأعمال الفنية لأفراد الأسرة، والتي قالت عنها «إنجى»: غرفة الاجتماعات اختارها أبى لتكون في المدخل الأمامى للشقة، وكنا نجتمع داخلها لمناقشة كل ما يتعلق بأعمالنا الفنية، وكنا نجلس فيها للتخطيط لأى عمل جديد، أو تنظيم ورشة عمل لأحد أعمال الأسرة الفنية.
ابن عروس
«ابن عروس» له هو الآخر حكاية في بيت الشاعر القنائى، حسبما قالت «إنجى»: والدى أعاد اكتشاف ابن عروس، وكتب عنه مسرحية تحمل عنوان «ملاعيب ابن عروس» وكل من تحدث عنه كان يذكر أنه من الأشخاص المطاريد، ويسرق العروس في ليلة الفرح من أجل الزواج منها، إلا أن أبى أعاد هذا الرجل من جديد، عندما كتب عنه هذه المسرحية، التي تناولت الظلم الذي وقع عليه، وكيف اختطف المماليك زوجته في ليلة العرس، ولم يستطع أحد من أهالي البلدة التي كان يسكن فيها أن يتحدث عن الأمر أو حتى يقدم له يد المساعدة.
ومن ابن عروس، انتقلت «إنجى» للحديث عن حكاية ذهابها هي وشقيقاتها لمولد سيدى عبد الرحيم القنائى، وقالت: دائما كانت الانتقادات تطارد أبى عندما يصطحبنا إلى المولد، وكانوا يقولون له «هتاخد البنات المولد»، وكان يرد قائلا: «ده السيد عبد الرحيم القناوي.. لازم يروحوا ويشوف ويزوروا المقام هناك».
هلال رمضان
«إنجي» أكدت أن والدها عند ظهور هلال رمضان كان يواظب على شراء الفوانيس لجميع أفراد الأسرة، وبمرور السنوات أصبح الأحفاد يحصلون على الفوانيس، كما أنه في احتفالات المولد النبوى كان يصر على شراء حلوى المولد والحصان والعروسة لنا، وبنبرة لم تخل من حزن، قالت «إنجى»: بعد رحيل والدى فوجئنا بابن شقيقتى دينا «روبن» يقول لنا في أيام شهر رمضان: «هو جدى مات ومش هيجيب لى فانوس رمضان تاني.. ما ليش دعوة» ووقتها كان قد انتهى الأسبوع الأول من شهر رمضان، وفشلنا في الحصول على فانوس له، وعندما علم أحد أصدقاء أبى بالأمر أحضر لنا أربعة فوانيس، والعام الماضى اشترينا فانوسا كبيرا مثلما أعتاد أبى، وقلنا لأولادنا: فانوس جدكم لازم يبقى وسطكم.. مش هيغيب عنكم وهو موجود وسطكم زى ما هو.
وعن طقوس اليوم المقدس في رمضان قالت «إنجي»: أتذكر هذا اليوم جيدًا الذي يتجمع فيه الأهل والأحباب والأصدقاء، والمائدة الكبيرة التي يتجمع حولها الجميع، وهناك عدد من الموائد الصغيرة الخاصة للمسافرين، مائدة رمضان دى حاجة دائمة.
مائدة رمضان
مائدة رمضان لم تكن الطقس الوحيد الذي يمارسه صاحب البيت ليعبر عن محبته، فمن دخل البيت بالتأكيد سيلفت نظره سجادة الصلاة، التي أصر «البططى» على توفيرها في البيت لأصدقائه المسلمين، ليؤدوا صلاة المغرب بعد الإفطار، وتروى «إنجى» قصة السجادة قائلة: هناك من ظن أننا حصلنا على السجادة من أحد جيراننا المسلمين، لكن هذا السجاد ملكنا، وكان البعض يستغرب وجود سجاد للصلاة في منزلنا ووقتها كان الرد «نفرش إيه.. إيه المشكلة في وجود السجاد».
الحزن هو الآخر كان حاضرًا في المشهد داخل البيت، فتتذكر «إنجى» يوم وفاة جدها، الذي تزامن مع أحد أيام شهر رمضان، فما كان من والدها إلا الإصرار على إعداد مائدة كبيرة لمن جاءوا لتقديم واجب العزاء في والده، ويومها قال للجميع، بعدما كسر قاعدة «مفيش أكل في العزاء»: «إحنا في رمضان.. محدش ليه دعوة بعزاء أو غيره»، وبعدها توجه بهم لزيارة ضريح عبد الرحيم القنائى.
الحاجة ابتسام.. فصل آخر يكشف حجم روعة الشاعر الراحل، فـ«ابتسام» هي زوجته، وهو من أطلق عليها لقب «الحاجة»، مبررًا لها الأمر بأنهم عندما يذهبون إلى القدس يقال عنهم «حجاج بيت المقدس.. إذن فهى حاجة»، وحتى اليوم لا يزال زملائى يقولون لى هذه الكلمة وفخورة جدا بها، لأنها خرجت منه. وعن ذكرياتها مع رفيق عمرها قالت الحاجة ابتسام: لم تكن قصة ارتباطنا عادية، فقد انفصلنا قبل زواجنا بعد قصة حب امتدت لأكثر من 3 سنوات، وبعد مرور فترة، زار أصدقاء زوجى الراحل المسلمون بيتنا، وطلبوا يدى لصديقهم «صفوت» الذي كان عمره وقتها 33 عامًا، وتزوجنا بعد صراعات كثيرة، وقمنا ببناء حياتنا، لدرجة أنهم يوم الزفاف في الكنيسة وقفوا مهللين «الورد كان شوك..عينك عينك يا اللى ما تصلى على النبي» ما جعل الأب الكاهن ينظر مبتسمًا «حلوة قوى محبة ربنا».
ابنة الشاعر
دينا.. ابنة الشاعر الراحل، تمتلك هي الأخرى ذكريات مع والدها، وتحديدًا يوم زفافها، وقالت: كنا في رمضان وقتها، ورفض والدى إحضار راقصة بشدة، وعند حضورنا في الكنيسة للإكليل، كان أغلب الحضور من المسلمين وكان أغلب القاعة حجاجا وجلابيب، وكثير من مناسبات العائلة مرتبطة بأعياد ومناسبات دينية إسلامية.
"نقلا عن العدد الورقي..."