رئيس التحرير
عصام كامل

من العودة للثكنات إلى منبر اليسار.. يوميات الصاغ في عالم السياسة

خالد محيي الدين
خالد محيي الدين

كان يساريًا صادقًا مؤمنًا بأفكاره وآرائه، يُعلن عنها بوضوح دون أن يخشى زوال منصب أو إقصاء من دائرة السلطة، كانت مواقفه دومًا إيجابية مع خصومه وكان دائمًا ما يُعيد تقييم أفكاره ويعترف دون خجل بأخطاءه، إنه خالد محيي الدين، آخر فرسان الضباط الأحرار، الذي رحل عن دنيانا منذ أيام، ولكن سيظل اسمه محفورًا في ذاكرة مصر بحروف من ذهب، لنضاله من أجل إرساء قيم الديمقراطية وإعلاء قيم العدالة، ولأدواره العسكرية والسياسية والثقافية.


ميول يسارية

كان خالد محيي الدين ابنًا للجيش المصري الذي انضم إليه في شبابه وتدرج فيه حتى وصل إلى رتبة صاغ (رائد)، ورجلًا عسكريًا مخلصًا، وكان من الأوائل الذين كونوا تنظيم الضباط الأحرار في الجيش، في هذه المرحلة كانت علاقة محيي الدين بعبد الناصر تسير على نحو ما يرام، وكان الأخير يُطلق عليه لقب (الصاغ الأحمر)، في إشارة صريحة وواضحة إلى ميول مُحيي الدين الاشتراكية، فقد كان أحد أبناء تنظيم "حدتو" الشيوعي أو ما يُطلق عليه "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى"، وشب على مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وآمن بأفكار كارل ماركس، قبل حتى أن ينضم إلى "الضباط الأحرار".

قاد تنظيم الضباط الأحرار ومن بينهم خالد محيي الدين خلية سرية أدت في الأخير إلى وضع نهاية للحكم الملكى في مصر مع ثورة 23 يوليو 1952، ومع مرور الوقت بدأت أفكار خالد محيي الدين تتصادم مع أفكار رفاقه من أعضاء مجلس قيادة الثورة.

كان رافضًا لاقتراح جمال سالم بإعدام الملك فاروق من منطلق أن الثورة نجحت بدون إراقة نقطة دم واحدة، كما أنه رفض أيضًا حل مجلس النواب خوفًا من الفراغ الدستورى والتشريعي بعد عزل الملك، وأيد عبد الناصر رأيه في الحالتين، ولكن الموقف الذي لم يقبله ناصر والرفاق حينما طالبهم محيي الدين في مارس عام 1954 بالعودة إلى الثكنات، والابتعاد عن الحكم، بعدما استشعر أن أحلامه عن حكم نيابي ديمقراطى تتلاشى، وكانت نتيجة هذ الصدام، استقال وسافر إلى سويسرا، حيث قضي ثلاث سنوات، لم يخفت خلالها بريق أفكاره حول الديمقراطية، ولم تتلاش قناعاته وأحلامه للوطن مع ابتعاده عنه.

السياسي اليساري
عاد محيي الدين إلى مصر عام 1957 بدعوة من عبد الناصر نفسه، ليبدأ فصلًا جديدًا من حياته كسياسي، فقد قرر الانغماس في عالم السياسية والدخول إليها من بوابة مجلس الأمة، فقرر الترشح عن دائرة كفر شكر، التابعة لمحافظة القليوبية، وبالفعل فاز بمقعد في المجلس، وشغل رئاسة اللجنة الخاصة التي شكلها المجلس النيابي في هذا التوقيت لحل مشكلة تهجير أهالي النوبة إثر إقامة السد العالى.

كما حرص، فارس الديمقراطية، على إصدار صحيفة يسارية مسائية تكون هي صوت اليسار في مصر، فأسس أول جريدة مسائية في مصر، وهى جريدة المساء، وتقلد مناصب عدة أبرزها رئيس منطقة الشرق الأوسط، ورئيس اللجنة المصرية للسلام ونزع السلاح، وحصل محيي الدين على جائزة لينين للسلام عام 1970.

حزب التجمع الوطنى

تولى الصاغ الأحمر إبان عهد الرئيس السادات قيادة منبر اليسار، فقد استغل تأييد الرئيس السادات لإحياء الأحزاب السياسية بعد حل الاتحاد الاشتراكى العربى الذي كان يمثل الحزب السياسي الوحيد في مصر، وبادر بتأسيس حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى عام 1976، وقد كان هذا الفصيل السياسي منبرًا لليسار المصري جاذبًا لعدد من الناصريين والديمقراطيين والماركسيين ومعتنقى توجه القومية العربية ومظلة لكل المؤمنين بالعدالة الاجتماعية وبالديمقراطية.

كان الحزب وفقًا للأفكار التي أعلنها محيي الدين، في طليعة الحركة السياسية المعارضة لبعض سياسات الرئيس السادات، على رأسها سياسة الانفتاح الاقتصادى الاستهلاكى التي أعلنها السادات عام 1974، فقد كان محيي الدين يري ضرورة استمرار حركة التصنيع الكبري التي بدأت في عهد ناصر، وعارض سياسة بيع الأصول الإستراتيجية للمصانع والمنشآت الاقتصادية الكبري التي تملكها الدولة، وكان مؤمنًا بضرورة الحفاظ على مكتسبات الفقراء ومحدودى الدخل من ثورة يوليو 1952.

ولعب حزب التجمع دورًا بارزًا في انتفاضة الخبز عام 1977، والتي كان يرعاها اليسار اعتراضًا على الغلاء، واتهم السادات اليساريين بإشعال الغضب الشعبي وبتدبير الأحداث واعتقل المئات من أعضاءه وكوادره، وأطلق على هذه الأحداث "انتفاضة الحرامية"

وبعد هذه الانتفاضة قرر محيي الدين إصدار جريدة الأهالي لتكون صوتًا للحزب ومنبرًا له، ومنفذًا لنشر الدراسات التي تتحدث عن حركة اليسار العالمى والفكر الاشتراكى، كما ناهض من خلالها هي والحزب دعوات التطبيع مع إسرائيل واصفًا إياها بالكيان الصهيونى الغاصب، فقد كان محيي الدين من أبرز المعارضين لتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل والتي تم توقيعها عام 1979.

لم يسلم محيي الدين من الاتهامات بالعمالة لصالح روسيا من قبل نظام الرئيس السادات ورجاله، وهى التهمة التي كانت عادة ما توجه لكثير من اليساريين العرب خلال هذه الفترة، واتخذ السادات ضد حزب التجمع وصحيفة الأهالي إجراءات عقابية قاسية في أواخر عهده.

الصاغ ومبارك
خلال فترة حكم محمد حسني مبارك، الرئيس الأسبق، كانت عضوية محيي الدين في البرلمان بالانتخاب مصدر قلق لبعض رجال الرئيس، فقد احتفظ بمقعده البرلمانى عن دائرة كفر شكر منذ عام 1990، ولمدة 15 عام، حتى عام 2005 حينما نجح مرشح الإخوان من الحصول على مقعده بالدائرة.

رفض محيي الدين المشاركة في انتخابات رئاسية لعدم إضفاء شرعية للرئيس الأسبق مبارك ولعدم ثقته في نزاهتها، فقد كان مناضلًا ضد فساد الحياة السياسية في عهد مبارك، ورافضًا لهيمنة الحزب الوطني الحاكم.

اعتزال الحياة السياسية
في عام 2002، كان حزب التجمع وأعضاؤه كافة على موعد مع إعلان المؤسس والرئيس، خالد محيي الدين، تنازله عن منصب رئاسة حزب التجمع، أقدم الأحزاب اليسارية في مصر، ليضع بقراره هذا النهاية لمسيرته السياسية الطويلة، مسيرة كان عنوانها الإيمان بالديمقراطية، بالرغم من مطالبة أعضائه بالاستمرار، واختاره الحزب رئيسًا لمجلسه الاستشارى لسنوات قبل أن يغالبه العمر والصحة فغلباه، ولكنه ظل رئيسًا روحيًا للحزب حتى الآن، وسيظل حتى بعد وفاته رمزًا من رموز الوطن الخالدين.
الجريدة الرسمية