رئيس التحرير
عصام كامل

لماذا أحب المصريون «الشيخ حسني»؟


"الشيخ حسني"، في فيلم "الكيت كات" هو تجسيد للشخصية المصرية التي قد تبدو متناقضة في ملامحها، لكنها لا بد أن تدهشك، وتستولي على قلبك!

الأعمى الفهلوي، الذي لا يعترف بضعفه، ويتحايل على ظروفه، يُقدم على أشياء تتطلب من الشخص أن يكون -في المقام الأول- حاد البصر، كأن يقود دراجة بخارية، أو يصطحب رجلا كفيفا في نزهة نيلية، يدمن الحشيش لكنه ليس شريرا، ولا عربيدا، بل على العكس هو رقيق القلب، ومرهف الحس، يغني فيتمايل الناس طربا لغنائه وإحساسه بالموسيقى رغم ردائة صوته، وعندما يتحدث عن أهل منطقته – دون أن يقصد– فهو رغم عجزه، العالم بكل أسرارهم، الملم بكل خباياهم، وسقطاتهم، ونزواتهم، ولحظات ضعفهم، وخياناتهم أيضا!

يروي الكاتب إبراهيم أصلان في كتابه "شيء من هذا القبيل"، مزيدا من الحكايات المدهشة، عن شخصية الشيخ حسني الحقيقية، التي عاصرها في حي الكيت كات، عندما كان يكتب روايته البديعة "مالك الحزين" المأخوذ عنها الفيلم، يقول أصلان إن الشيخ كان يعرف الشخص من ملمس يده بمجرد أن يصافحه، وقبل أن يسمع صوته، وعندما كان أصلان يتأبط ذراعه ويسيران معا على الكورنيش، يطلب منه الشيخ سيجارة، ينتهي منها ويطلب أخرى، ثم يطلب الثالثة، وعندما يلتفت إليه أصلان مندهشا يقول له الشيخ بعفوية: إنت بتبص لي كده ليه؟!

وقد تعرض الشيخ حسني الحقيقي بعد وفاة زوجته الأولى، للخداع من خالته عندما زوجته من ابنتها التي تعاني من ضعف شديد في الإبصار بحيث ترى بالكاد، وكان الشيخ يمتلك بدلتين إحداهما رمادية والثانية بنية اللون، وقد لاحظ أن زوجته كلما طلب منها إحدى البدلتين تأتي له بالأخرى، وكان هو يعرف البدلة من ملمس القماش، وكلما طلب منها كوبا من الشاي تتحجج بأي حجة لكي تتهرب منه، فينزل إلى الدور الأرضي حيث تقيم أمه، يشكو لها مسلك الزوجة، فتصنع له أمه الشاي، وتبرر له الموقف بأن زوجته ما زالت عروسا تتدلل عليه..

وبعد فترة أصر الشيخ حسني على أن تصنع له زوجته الشاي، وفشلت محاولاتها في التهرب منه، حيث قام بنفسه وأحضر لها الوابور والكبريت، ولم تجد الزوجة مفرا من المحاولة، أمسكت بعود الكبريت وبدلا من أن تشعل الوابور، أشعلت النار في السرير، وبعد لحظات شعر كلاهما بسخونة النار، فجرت الزوجة وهي تصرخ، واكتشف هو السر بعد احتراق الغرفة، فأصر على أن يطلقها..

كان الرجل مصريا في تحديه لعجزه وظروفه القاهرة وتحايله عليها، وفي فهلوته وخفة ظله، وذكائه وفراسته، في حبه للحشيش الذي يعتبره قطاع كبير من المصريين نوعا من "الكيف النظيف"، بل ويدخنه البعض من باب الوجاهة الاجتماعية، في حبه للموسيقى والطرب رغم أن صوته لم يكن جميلا، إلى درجة أن الفنان بليغ حمدي - وفقا لرواية أصلان- حضر خصيصى ليسمع أغنية "عندما يأتي المساء"، بصوت الشيخ حسني!

الأهم من ذلك أن ثمة ملمحا مهما في شخصيته نجده واضحا في موقفين: 

الأول في الواقع عندما اكتشف الشيخ حسني خديعة زوجته – ابنة الخالة– حيث رفض الاستمرار في حياته معها، ويقول إبراهيم أصلان إنه اندهش من موقف الشيخ، وقال له أإه أكثر شخص يستطيع أن يقدر موقف الزوجة الكفيفة، على اعتبار أنه يعاني نفس الظروف، فرد الشيخ حسني بأنه لو كان يمتلك الإمكانيات فربما تزوج من مبصرة ترعاهما معا، وأصر على فراقها، ولم يتزوج بعد ذلك حتى وفاته..

أما الموقف الثاني فهو الأشهر، لأننا شاهدناه في الفيلم الذي صاغه سينمائيا، المبدع داود عبد السيد، عندما أرسل "صبحي الفرارجي" من يحاول إغراق الشيخ في النيل بقصد إخافته، حيث لم يهتم الشيخ حسني بمحاولة قتله، ولا بلحظات الخوف التي عاشها، لكنه كان مستفزا وثائرا لأن صبحي تعامل معه بوصفه أعمى، هذا فقط ما أثار حفيظة الشيخ فقال عبارته التي صارت "لازمة" يرددها المصريون كلما تعرضوا للخديعة، أو لاستغلال عجزهم، "إنت بتسعماني يا صبحي ؟"!

والشبه واضح بين الموقف الدرامي مع صبحي الفرارجي، والموقف الحقيقي مع الزوجة الكفيفة، فكلاهما استغل عمي الشيخ حسني وخدعه، وهو لا يغفر أبدا لمن يفعل ذلك..

كثير من المصريين مثل الشيخ حسني رحمة الله عليه، يتحايلون على الفقر بالفهلوة، وعلي القهر بالنكتة، لا يرون عيبا في تناول زجاجة بيرة أو تدخين سيجارة حشيش ليلة الخميس، لكن هذا لا يعطلهم عن الاستيقاظ مبكرا ليلحقوا بصلاة الجمعة، يتشاجرون لأتفه الأسباب لكن معاركهم تنتهي في الغالب بعبارة واحدة "توكل على الله.. نهارك أبيض"..

يأخذون من خير بلادهم الجزء الأقل، ويقدمون للدفاع عنها النصيب الأكبر، قد يغفرون لمن يسرقهم، أو يسجنهم، أو يدخلهم في مغامرات طائشة، لكنهم لا يغفرون أبدا لمن يخدعهم، أو يستغل ضعفهم، وساعة الحساب تجدهم وقد نسوا كل شيء، وتذكروا فقط من "استعماهم"، مثلما فعلت زوجة الشيخ حسني الكفيفة، ومثلما فعل صبحي الفرارجي!
الجريدة الرسمية