رئيس التحرير
عصام كامل

رحل السكان وبقيت القطط والكلاب.. كيف يعيش آخر ما تبقى من حيوانات «مثلث ماسبيرو»

فيتو

على ناصية شارع "أبو طالب" الذي يحتل الجهة اليمنى لمثلث ماسبيرو بالقرب من منطقة بولاق أبو العلا بالقاهرة، نفض سعيد محمود 45 عاما الغبار عن قطعة حجرية كبيرة الحجم، كانت آخر ما تبقى من بيته الصغير المكون من طابق واحد، قبل أن تتركه آخر طرقة لمعول عامل الهدم، ليبقى الأثر الأخير من طفولة وشباب سعيد الذي داوم على المجيء كل يوم، منذ العاشرة صباحا، يدور حول بقايا منزله والورشة الملاصقة له، يبحث عن قطة ابنته الصغرى "رحمة" وصغارها الخمسة: "من نحو أسبوع لما جه واحد جاري قالي إلحق ورشتك وبيتك بيهدوهم، جريت على هناك لقيت القطط بتاعت بنتي الصغيرة، أول ما شد انتباهي بينطوا من سور السطح على الأرض، بنتي كانت بتبكي ومن يومها كل يوم تطلب مني آجي هنا أدور عليهم، من سنين وهما معانا".



ينبش سعيد بين الأنقاض، يتتبع صوت القطة وهو يناديها باسمها، يضرب أحد المارة كفه بالآخر، متعجبا بما يفعله سعيد، "الرجل اتجنن كل يوم ييجي يقعد على هدد البيت يدور على قططه، القطط ماتت والكلاب طفشت، وكل حاجة هنا اتقتلت".

يبدو سعيد الذي انتقل بعد ساعات قليلة من هدم منزله إلى منطقة بشتيل حيث يسكن شقيقه الأكبر، كأنه يبحث عما تبقى من أيام الصبا بين الأنقاض، يستعيد طفولته في رحلته اليومية في البحث عن قطط ابنته، بينما ما زال طيف الأمل يلوح له بغد أفضل في حضن المنطقة ذاتها، "أنا اخترت البقاء وقولتلهم هستنى الـ 3 سنوات اللي حددتوهم، وهرجع منطقتي".


ثلاثة خيارات وضعتها حكومة المهندس شريف إسماعيل أمام سكان المثلث، إما الانتقال إلى شقق سكنية جديدة في منطقة الأسمرات، أو الحصول على تعويض مادي 100 ألف جنيه مقابل هدم الحجرة الواحدة، أو حل البقاء مع انتظار التطوير الذي تتحدث عنه حكومات متعاقبة منذ أكثر من أربعين عاما، وهذا الأخير ما لجأ إليه معظم السكان، خاصة من كانوا يقتاتون من تلك المنطقة، كأصحاب ورش صيانة السيارات والمقاهي والمحال التجارية.

"كل الناس هنا لقيت ألف حل وحل بعد ما بيوتها اتهدت، إلا الكلاب والقطط هي الضحايا الحقيقيون للي حصل"، عبارة يلقيها أحد سكان المنطقة ممن تمترس بسيارته النصف نقل أمام أنقاض ورشة صيانة السيارات التي كان يمتلكها بالشراكة مع أشقائه.


منذ الساعات الأولى من أعمال الهدم بآخر مرحلة داخل الـ 72 فدانا الواقعة ضمن مثلث ماسبيرو، والذي بات لعنة تطارد كل من ينتمي له، وبينما كانت ماكينات الهدم والمعاول تشق الجدار فيتهاوى تدريجيا، لم تصغ الأيدي الهادمة لصرخات متقطعة، لمخلوقات تستجدي من حولها، "بقينا نشوف الحيطان وهي بتقع على القطط والكلاب تساويهم بالأرض فوق الألفين كلب وقطة ماتوا يوم الهدم في المنطقة دي فقط"، يشير مصطفى أحد السكان ممن حرص على المجيء كل صباح إلى منزله، إلى كومة ركام ما زالت خيوط الدخان والغبار تتصاعد منها، مؤكدا على تواجد عشرات الجثث للقطط أسفل الأنقاض.



كانت الحيوانات الأكبر سنا والأكثر خبرة هي الرابح الوحيد في معركة البقاء، فمنها من لاذ بورشة الأسطى إبراهيم، التي أنقذها الإعلان الضخم الملاصق لمبنى فندق رمسيس هيلتون من الهدم والطمس التام، بدت القطط والكلاب وكأنها تخبر بعضها بأن ثمة ملاذا آمنا في هذه الأرض الخربة، التي لم يألفوها بعد، "الكلاب أثناء الهدم كانت عاملة زي المضروب على رأسه مش عارفين يروحوا فين، كانوا بينطوا من سور البلكونات ويجروا يمسكوا في اللي بيهدموا الحوائط كأنهم عايزين يمنعوهم".

في غضون أيام قليلة تحولت ورشة عم إبراهيم مأوى لعشرات القطط والكلاب الضالة، وخصص السكان ميزانية يومية لشراء الطعام لهم، يشرف الأسطى إبراهيم 60 عاما، على جمع الأموال، "كل فرد يدفع على قد ما يقدر 5 جنيهات أو حتى أقل"، ليصبح في النهاية المبلغ كافيا لشراء شرائح "اللانشون" زهيدة الثمن، أو أطراف الدجاج مع أرغفة الخبز.

وجبة في اليوم كفيلة أن تبدد وحشة حيوانات مثلث ماسبيرو، بعد أن فقدوا مصدر الطعام والنوم بفقدان المنازل لجدرانها، "البيوت هنا شعبية وطبيعتها مختلفة، أغلب الوقت كان باب البيت بيكون مفتوح، أي كلب أو قطة معديين بيدخلوا والسكان يدوهم الأكل المتاح".

على الجانب الآخر وبينما يتكاتف العشرات لإطعام ما تبقى حيا، وتوفير مكان آمن للنوم مساء في ورشة عم إبراهيم، دأبت "هبة عبد الحكيم" 25 عاما، على الحضور يوميا في تمام التاسعة صباحا، في يدها الكيس البلاستيكي ذاته، معبأ بقطع اللانشون وأطراف الدجاج وبقايا طعام غداء اليوم الماضي، تنثر الطعام في محيط الورشة، يتجمع حولها ما تبقى من القطط والكلاب في المنطقة، يأتون من كل حدب وصوب: "أنا كان عندي كلاب مربياها في بيتي اللي اتهد، ماتوا يوم الهدد وقررت أطعم كل الكلاب اللي نجت". 

أصبحت هبة صديقة مقربة لهم، هدمت بيديها الحانية شبح الموت الذي كان يستوحش أكثر فأكثر كلما سقط جدار كانوا يحتمون به من حرارة الشمس أو برد الشتاء. "إحنا هنا كلنا صعب علينا حال الحيوانات خاصة إن المنطقة معروفة بأنها مأهولة بشكل كبير بالكلاب والقطط من سنين".
الجريدة الرسمية