مصر حمالة الأسية
قالها "النحاس" قديما: "من أجل مصر وقعنا الاتفاقية ومن أجل مصر نلغيها"، ومن يومها أصبحت مصر حمالة الأسية، نعلق فشلنا وغضبنا وتعاستنا ولدينا القدرة المذهلة على تبرير الحب والفشل، وبالطبع نحن الأمة الوحيدة التي تعبر عن إعجابها الشديد مثلا بلعبة أو فكرة، وليس لدينا كتالوج..
فهذه الأمة وقفت مع الملك ضد الإنجليز، ووقفت مع الجيش ضد الملك، ووقفت مع عبد الناصر في العدوان الثلاثي ورفضوا تنحيه في ٦٧، لكنهم تظاهروا ضده فيما عرف بأحكام الطيران، وهي الأمة التي سخرت من السادات حيّا واحترمته ميتا، وهي الأمة التي انتخبت مرسي وعزلته في عام واحد، وباختصار تلك أمة لها قوانينها الخاصة، يتحرك وفقا لرهاناته ويستعصي على أي باحث في العلوم الاجتماعية رصد وتوصيف ردود أفعاله..
وخذ مثلا رد سيدة "التجمع" عندما حبستها الأمطار في السيارة، سبت مصر وعندما تم توظيف غضبها ضد مصر اعتذرت لمصر، وعندما التوى كاحلها وهي تعبر الإشارة شتمت مصر، ومن في مصر، وكل من يعملون في صناعة الطرق والكباري ورجال المرور وسائقي الميكروباصات، وعندما يختلف الزوج مع زوجته يسب بلدها التي هي بلده.. ومن لا يعجبه تصرفات رئيسه في العمل يسب بلده..
عند الإعلان عن القبض على واقعة فساد كبرى نجد من يسب مصر.. تغرق السيول التجمع يشتموا مصر.. تنشب أزمة هطل بين اتحاد الكرة والشركة الراعية لصلاح يسبوا مصر.. مضطهد في المنطقة تسب مصر.. وترتفع الأسعار فيكون السبب مصر.. طلقها زوجها تسب مصر.. تعاني المحسوبية تسب مصر.. تتعطل في إشارة المرور تلعن مصر.. تدمر المناهج التعليمية علشان مصر..
وباختصار فإن الفوضى بالشارع التي تشكو منها الأقلية وتستمتع بها الأغلبية سببها أن المسئولين عن تطبيق القوانين لا يطبقونها ويكتفون برمي الكرة في ملعب السلوك البشري المصري، ويناشدون المنتهكين والفوضويين والعشوائيين باحترام القوانين التي لم يسمعوا عنها من الأصل، ومن تطبق عليهم الأحكام والقوانين يكرهونها ويعتبرونها ظلما وتقييدها لحرياتهم، وتزداد الحيرة حين تجد المنوط بهم تنفيذ القانون يضربون بها عرض الحائط لأنهم مستثنون بحكم وظائف بعضهم.
وكل وزير جديد يتعامل مع المصريين على أنهم فئران تجارب، ويقول علشان مستقبل مصر، وعندما يقوم بتخريب اللغات يقول من أجل التعريب وهوية مصر، ومع ذلك كل مناهج الطب والهندسة والعلوم بلغات أجنبية، ثم يذهب الرجل نفسه بتاع التعريب للعلاج في الخارج ويستخدم كل ما ينتجه الخارج في حياته الشخصية، وهي بالمناسبة بأسماء أجنبية وينطقها بمنتهى السعادة، وكأنه لم يسمع بأحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم): "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها" واطلبوا العلم ولو في الصين..
أي إن العلم بلا هوية ولا جنسية، ورغم أن التعليم منظومة متكاملة مدرسة ومدرس وطالب ومنهج ترك الوزير كل العناصر وذهب للتعريب، وطبعا كله عشان مصر، وفقا لكلام الوزير، والغريب أنه يجد من يناصره من جماعة الأمعات الرسمية معاهم معاهم لأن الثأر من الآخر عندهم أهم من الوطن والمواطن، بلا تفرقة بين الدولة والنظام والسلطة.
الحكاية أن هذا البلد يتحمل منذ الأبد التناقض بين القول والعمل، معظمنا يريد الآخرين اشتراكيين وهو يمارس أبشع قوانين الرأسمالية، أو أن يكون ثوريا في الظاهر ومرجعيًا في الباطن، يريد المنح والمساعدات من الدول الأخرى مجانا ودون أن تدفع شيئا من الاستقلال الوطني، ويريد أن يعامل معاملة الشهداء وهو جالس يناضل على فيس بوك في عالمة الافتراضي، أي إنه يريد كل شيء مجانا دون دفع الثمن..
وبينما نصب اللعنات على أنفسنا وعلى بلدنا وعلى حكامنا وزعمائنا تقوم قيامتنا دفاعا عن صورة مصر إذا تناولنا أحد في الخارج بنقدنا، وهو لا يقول أكثر مما نقوله، لكن صورة مصر أو سمعة مصر تستفزنا إذا جاءت من الخارج، وكلنا يعرف أن صورة مصر في الخارج يتم صياغتها وصناعتها في الداخل، لكننا نعمل بمنطق ادعو على إبني وأرفض من يقول آمين..
وهناك من يتمنى إسقاط الدولة والنظام والاستقرار طالما أن ذلك سوف يؤدي للخلاص ممن نختلف معهم، وكل ذلك بالطبع تحت لافتات الوطن ومصر، وكان الله في عون هذا البلد، لأن الخوف على مصر ليس من خارجه بل من داخله أولا، لأننا لا نعيش في مجتمع مثالي ولا تحكمنا قوى ملائكية هبطت علينا من السماء.