إشكالية الحسبة
جاء الإسلام فضرب سطوة الكهان وسلطة الحكام، فمَنَعَ الوساطة بين العبد وربه، وأعلى كرامته الإنسانية فجعله جديراً بالاتصال به مباشرة، ليعبده أنَّى شاء، فلم يجد الكهان لهم موضعًا ومجالاً مع منهج الإسلام قولاً وعملاً، ثم أردف ذلك بوقف حكم وسيطرة الحكام والملوك على الناس، فضرب مفهوم تَحَكُّمَ الحاكم وعبادة العباد له، فجعل العبودية والحاكمية لله وحده، فأمر ألا يعبدوا إلا إياه، فلا حكم أو حاكمية بمعنى السيطرة والانقياد والعبودية لبشرٍ أينما كان، فهى لله المستحق للعبادة والإكبار وحده، ثم فرَّقَ بين الحُكم والأمر، فحصر مفهوم الحكم كتقييد وإخضاع وقدرة له كإله، وجعل الأمر بين الناس للناس(وأمرهم شورى بينهم) ويعنى الإدارة والتنظيم لشئون ومفاهيم حياتهم وفق مقاصد منهجه، وجعل لهم الولاية الكاملة عليها ( أنتم أعلم بشئون دنياكم)، فقضى على تراث المفهوم التاريخى للحاكم المسيطر، فلم نجد لصفة الحاكم موضعًا فى فجر الإسلام، وإنما هو أميرٌ مأمور بما يراه الآمرون من أهل الشورى الذين هم أولو الأمر، فيكون الحاكم بذلك هو المحكوم وليس العكس، وما وظيفة الأمير إلا ليضع أمر أهل الشورى موضع التنفيذ، فهو أداةٌ للتنفيذ وليست للحكم، وطبقًا لهذا المفهوم الذى ينعدم فيه وجود الحاكم المسيطر يكون فيه الناس هم المنظمون لحياتهم بأنفسهم من خلال جمهور أهل الشورى، ويكون لكل فرد فى المجتمع تبعًا لذلك صفة الولاية على توجيه ومراقبة الإدارة فهو حسيب أصلى على مجتمعه، فكل الناس فيه أعضاء فى الجمعية المجتمعية لإدارته، ولا يعطل تمثيل أهل الشورى له ولايته الشخصية فهو الأصيل وهم الوكلاء، هنا تقع الحسبة كأصل من أصول الشريعة بل أساس لمفهومها، فإن تحول الأمير لحاكم مسيطر كما هو فى نظامنا السياسي الآن يُعُطِّلَ المنهج ولا يكون لنظام الحسبة موضعًا، ويصبح هو الآمر ونحن المأمورون، فيستلب الحسبة له كحاكم يملك القدرة على الناس ولمن يفوضه فيهم من خاصته المختارة كأصحاب ضبطية قضائية، وكنيابة عامة، وأجهزة رقابية لا يجيز غيرها كنظام عام ويخضع المجتمع كله له.
أقيموا مفهوم الشورى بين الناس تجب الحسبة، ولن تكون الشورى حتى يكون الحاكم أميراً نوظفه لا يوظفنا، ونحاسبه لا يحاسبنا، ويخرج من مفهوم كبره وفخامته وهيبته وسطوته، وإلا فتكون الحسبة خروجًا على دولته، وافتئاتًا على سلطته!