رئيس التحرير
عصام كامل

ما قالته جمالات شيحة قبل وفاتها.. الزيارة الأخيرة لـ «فيتو» في منزلها: صديقي قالي «غني لحد آخر نفس».. الغناء علاجي والجمهور بيوحشني.. زكريا الحجاوي طلب يتجوزني ورفضت.. وتكريماتي &#

فيتو

حي شعبي بسيط، تدلف بين شوارعه إلى أن تصل "زقاق" صغيرا حيث منزلها، لا يمكنك أن تصل إلى هذا المنزل سوى بصحبة واحد من أهل حي إمبابة الذين يعرفونها جميعا عن ظهر قلب.. هنا منزل "جمالات شيحة" رائدة فن الموال الشعبي.


أمام المنزل تشعر بمدى الظلم الذي ترتكبه الحياة فينا، فهل أن يكون هذا منزل تلميذة زكريا الحجاوي؟ ما الذي فعله الزمن بهذه المرأة ليلقيها هنا بعدما أحيت بحنجرتها فنون مصر الشعبية؟.. درج محطم معظمه، تصعد من خلاله الطابق الثاني، حيث تجد حفيدتها وابنتها، تجلسان على أثاث المنزل البسيط، وما إن يشاهدانك أمام بابهما المشرع دائما حتى يستقبلانك ويسألانك عن مرادك.

كان ما سبق بداية ما دار في الزيارة الأخيرة التي أجرتها «فيتو» إلى منزل الفنانة جمالات شيحة، التي رحلت عن عالمنا منذ قليل، عن عمر يناهز ٨٠ عاما.



 

لا يلزم تحديد موعد مسبق أو معرفة مسبقة لزيارة جمالات شيحة في منزلها، هي لا تهتم بتلك التفاصيل التي تعتبرها غير هامة، فالحياة عندها أبسط من أن نأخذها على محمل الجد.. خرجت إلينا من غرفتها بنصف انحناءة، تمسك بيدها اليمين ركبتها التي هزلت من فرط ما حملت من السنوات، وتنظر إلينا بابتسامة بشوش كما لو أن المرض الذي يأكل جسدها هو حدث عابر لا يستحق إعارته نظرة أو تنهيدة ألم.

لا يلزمك أيضًا طرح الأسئلة، فهي تجيبك عما تراه في عينك من أسئلة، تقول: "ياه فين أيام زمان، ماعدش في الدنيا حاجة حلوة زي الأول، ولا في طيبة في الناس، حتى أنا منظري اتغير والمرض أكلني"، ثم تضحك وتقول: "عادي أهم حاجة إن روحي حلوة زي ماهي".


 

"الغنا" علاج
نعم، بقدر السنوات الطوال التي قضتها على المسارح، كانت "روحها حلوة" فرغم جسدها الذي أكله المرض واعتصر بهاءه، إلا أن الموسيقى كانت تكتب من نوتة كاملة من رأسها إلى قدميها، تقول: "من وأنا عندي 12 سنة وأنا بغني، ورغم إني مش قادرة أمشي كتير دلوقتي وتعبانة، إلا إني بروح بين كل فترة والتانية بعمل حفلة.. أصل أنا بحب جمهوري أوي، بحب تصفيقهم ليا، وعنيهم وهي بتضحك لوحدها، بحس ساعتها إني نسيت كل المرض والتعب كأن الغنا علاج، وأفضل أغني وأغني ومزهقش أبدًا".

تدندن قليلًا ثم تصمت وتقول: "أنا كنت لهلوبة، بحفظ كل الأغاني بتاعت الستات في الشوارع، وأغنيهم، وأحفظ أغاني أم كلثوم وعبدالحليم، أي أغنية بحفظها في يوم بس، مع إني مش بعرف أكتب اسمي حتى، بس عندي ذاكرة بالحي كله"، وتضيف "لو أولادي كان ليهم في الفن كانوا المفروض عملوا مكتبة تجمع كل الأغاني اللي حفظاها، بس أنا أولادي غلابة، وحرام أشغلهم بيا". 


 

دندنة في منتصف الحديث
لم يكن الحديث أجمل ما دار في تلك الزيارة، وإنما غناؤها المفاجئ وسط منتصف الحديث كان الأبهى على الإطلاق، حيث تتحدث ثم تقطع حديثها فجأة وتغني مقطعا من موال خطر إلى ذهنها ولم ترغب في رد ندائه إليها، فأخذت "تدندنه".. وعلى الرغم من المرض الذي كان واضحا للعيان في عيونها، إلا أنها كانت تشق الوجع لتلمع حين تتحدث عن الموسيقى والفن، وتتذكر هيبة المسرح وتسمع تصفيق الجمهور.

زكريا الحجاوي "المعلم.. والزوج المرفوض"
نعلم جميعا أن الفنان الراحل زكريا الحجاوي هو رائد الفن الشعبي ومكتشف معظم مطرباته، التي تأتي جمالات في مقدمتهن، إلا أنها في تلك الزيارة قصت ما لم نكن نعلمه عن علاقتهما التي لم تقف عند حد "الأستاذ والتلميذة"، وإنما حاولت تلك العلاقة طرق أبواب الزواج، إلا أنها وجدتها موصدة.. تقول: "تعرفي إن أستاذ زكريا الحجاوي كان نفسه يتجوزني، واتقدملي فعلا بس أنا مرضتش، بعد ماجوزي مات استحرمت إني أسيب عيالي أو أهملهم، وعشان كمان ما أجرحهمش، فقولته أنا ماليش أخ وخليك إنت أخويا".



فجأة، قطعت ما كانت تقوله، وبدأت في غناء مقطع صغير من أغنية "لسه فاكر" لأم كلثوم، ولكنها كانت تهمس في غنائها وتقول لي: "مينفعش أعلي صوتي عشان جارنا ميت".

طيلة مدة الزيارة كانت تلمع عيون جمالات بالحب وبريق الفن، إلا أنهما انطفأتا فجأة، عندما ذكرت لها تكريمها الأخير من وزارة الثقافة على مسيرتها في الفن الشعبي، ضحكت ضحكة موجعة، ثم تنهدت وقالت: "ياه أخيرا افتكروني، سيبك من كل التكريمات، كلها عشان التصوير وبر العتب، لكن الحقيقة إني تعبانة ومفيش حد فكر يكون جنبي، دي تكريمات سكة مش بجد، الحيطة مليانة تكريمات ولا واحد فيهم بجد".


 

وصية أخيرة.. لماذا لم تعتزل ؟
بعد كل هذا الألم الذي ينفث فحيحه في وجهك، لابد وأن تسأل نفسك، لماذا لم تعتزل، لماذا أصرت على اعتلاء المسارح حتى يومها الأخير.. السؤال نفسه طرحته "فيتو" عليها آنذاك، وكانت إجابتها: 

"تعرفي إني كان المفروض أعتزل من زمان، كان لازم أعتزل، بس كان ليا صديق زمان جدًا، وصاني قبل ما يموت وقالي اوعي تسيبي الغنا والفن، وإني أفضل أغني لآخر نفس فيا.. وأديني ماشية ع الوصية".

الجريدة الرسمية