التفكير خارج «صندوق» النقد الدولي
تلوح في الأفق أزمة كبيرة ستواجه المواطن المصري من الكادحين، وذلك عندما تقوم الحكومة بالأمر المباشر من صندوق النقد الدولي برفع أسعار الوقود والطاقة في مرحلة أخيرة لرفع الدعم عن هذه المنتجات؛ لتكون بسعرها الحر؛ وهو الأمر الذي سيؤدي يقينا إلى رفع أسعار جميع السلع والخدمات بصورة كبيرة، كما حدث عندما تم رفع سعرها وتعويم الجنيه.
وقد أبلغ صندوق النقد الدولي الحكومة أن لديها حرية الحركة حتى نهاية العام الحالي لرفع أسعار الوقود والطاقة، وبقي أن تحدد الحكومة الوقت المناسب لذلك، ونحن هنا لا يمكن أبدا أن نتهم صندوق النقد الدولي أنه وراء رفع الدعم وارتفاع الأسعار، فالصندوق مؤسسة مالية هدفها مساعدة الحكومات التي تلجأ إليه بالإرشادات الواجب تنفيذها، طالما أن هذه الحكومات لجأت إليه وطلبت منه المعونة والقرض.
وبالطبع يقدم الصندوق توجيهاته حتى يضمن استرداد القرض الذي قدمه للحكومات، فيرسم لها الخريطة التي عليها أن تتبعها في سبيل رد القرض الذي أخذته، وهنا لا يقع اللوم على الصندوق إنما على الحكومة التي ذهبت إليه.
ولما كانت الحكومة المصرية قد ذهبت بقدميها إلى الصندوق، وطلبت منه القرض، كان لزاما عليها أن تنفذ أوامر الصندوق وتلتزم برفع الدعم كما طلب الصندوق، وهنا يثور التساؤل: لماذا لجأت حكومة مصر للصندوق؟ وما خطوات القرض وقيمته؟
وبالطبع الهدف من اللجوء للصندوق، كما عبر رئيس البنك المركزي ووزير المالية، أن الصندوق عندما يمنح مصر القرض فإنها يمنحها وثيقة أنها دولة قادرة على تنفيذ التزاماتها والنهوض باقتصادها؛ مما يجعل المستثمر يقبل على مصر من شتى أنحاء العالم، وهذه الإجابة غريبة بالفعل؛ لأنه منذ الموافقة على القرض وتنفيذ بنوده لم نشهد طفرة غير عادية في المستثمرين الأجانب، فهل يرجع ذلك إلى أنهم إلى الآن لم يعلموا أن البنك وافق على القرض؟!!
والأعجب من ذلك لماذا تنتظر مصر مستثمر أجنبي؟ فمن المعروف أن البلدان التي تنتظر المستثمر الأجنبي تريد أن تعتمد عليه ماليا في القيام بمشروعات مختلفة، بحيث تقوم الحكومة أو الوطنيين بباقي المشروعات، لكن في مصر لا نحتاج لهذا المستثمر على الإطلاق، حيث تمتلك مصر-الحكومة المال الضخم المكدس في البنوك الذي يحتاج فقط فرصة للاستثمار، كما تمتلك الحكومة-مصر- الأراضي الشاسعة والمرافق المتنوعة، فما يبقى سوى أن تقوم الحكومة بمشروعات جادة وضخمة ومربحة، تستثمر فيها الأموال المكدسة؛ لتنهي مشكلة البطالة والدولار، وتربح أصحاب الأموال، وتحل مشكلة الاستثمار في مصر، إذا لا حاجة للجوء للصندوق بهذا السبب.
وعند النظر إلى قيمة القرض نجده نحو 12 مليار دولار على 3 سنوات، بواقع نحو 4 مليارات دولار سنويا على 6 دفعات على مدار 3 سنوات، بعد إجراء 5 مراجعات وتقييم أداء البرنامج الإصلاحي الاقتصادي، وقد وتسلم البنك المركزي المصري، في 11 نوفمبر 2016، الدفعة الأولى التي بلغت قيمتها 2.75 مليار دولار، وتم صرف الشريحة الثانية من القرض البالغة قيمتها نحو 1.25 مليار دولار في يوليو 2017.
وحصلت مصر على الشريحة الثالثة التي تقدر بنحو 2 مليار بعد اجتماعات بعثة صندوق النقد الدولي، في ديسمبر 2017. وبدأت إجراءات المراجعة الدورية الثالثة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري، في 15 مارس 2018، تمهيدًا لحصول مصر على الدفعة الرابعة من القرض وقيمتها 2 مليار دولار، ثم ستتبقى الشريحة الخامسة والسادسة كل منها بقيمة 2 مليار دولار.
ومع كامل الاحترام للصندوق الذي يفرض الآن وجوب رفع الدعم على الحكومة من أجل حصولها على بقية القرض، فإن الحكومة في هذا التوقيت تجد نفسها في مأزق كبير، حيث ينبغي أن تنتهي من رفع الدعم عن المحروقات بما سيرفع الأسعار أو يشعلها بقوة، وبذلك ستلقي الحكومة شريحة كبيرة من المصريين في أتون الجحيم الاقتصادي ومنطقة أسفل حزام الفقر، وهذه الشريحة لم تفق بعد من موجة رفع الأسعار السابقة بعد تحرير سعر الصرف..
وهي لن تتحمل الزيادات الجديدة في الأسعار، حتى مع بعض التدابير الحكومية مثل علاوة أو زيادة زجاجة زيت في التموين فلن تكون قادرة على الحياة السوية، وهذه الشريحة هي التي صبرت على أمل الأفضل وأن تستمتع بثمار الصبر في الفترة القادمة، وإذا بها ستجد نفسها تعاني أشد المعاناة حتى ستتحول إلى شحاذين، ولن تجد حتى أماكن للشحاذة التي ستكون مزدحمة بشدة!
كما أن رفع الأسعار في هذه المرحلة سيخنق الاقتصاد، حيث ستتوقف الكثير من المصانع بسبب عدم تصريف إنتاجها لغلاء الأسعار؛ مما سيرفع نسب البطالة، ويخلق حالة ضخمة من التضخم لم تفق الحكومة بعد من معالجتها.
وتؤكد الحكومة أنها مضطرة لرفع الدعم لتنفيذ سياسة الصندوق، وفي الوقت ذاته ترى بأعينها ما سيحدث للمواطن المصري العادي من جراء رفع الأسعار، فتجد الحكومة في حيرة واضطراب؛ لذلك لم تعلن عن مواعيد رفع الدعم، وتفكر كيف تخرج من هذا المأزق، فلو رفعت المرتبات لخلقت حالة تضخم، ولو تركتها لخلقت حالة فقر مدقع، والحل الأمثل –من وجهة نظري– أن تتمهل الحكومة في رفع الدعم هذا العام، وأن تستغني عن الشريحة الرابعة أو حتى باقي الشرائح من الصندوق..
وأن تبدأ في التنمية الحقيقية للوطن بدعم المشروعات الكبرى والصناعات المختلفة التي في النهاية ستحقق التنمية والرخاء، حيث تنشئ الحكومة المصانع التي تحتاجها منطقة الشرق الأوسط كلها وليس مصر فقط؛ مما سيوفر الدولار أولا، ثم يعظم العائد منه، ويقلص من البطالة، ويخلق حالة الرواج، ويتم الاستفادة الفعلية من شبكة الطرق الجديدة، والمدن المختلفة، ووقتها تستطيع الحكومة رفع الدعم، وبذلك يكون تفكير الحكومة خارج صندوق النقد الدولي.